قصة.. المدينة الفاضلة الجزء الرابع والأخير


الكاتبة: سميره التميمي
أمسكت بالصورة أعدت النظر إليها مراراً وتكراراً، خلعت نظارتي مسحتها من جديد وأعدت أرتدائها من شدة ذهولي غير معقول ماهذا الشبه!!.
نظرت للسيدة زينب متسائلاً : عفوا من يكون هذا؟
_ إنه والد أحمد زوجي عبدالله
نظرت إلى سوسن في ذهول، طلبت سوسن مني الصورة وتأملتها هي والعم صالح!
قلت لها : سيدة زينب عفواً هل تبقي على تواصل معنا، أحتاج الصورة فضلاً لنتأكد من أمر ما؟
_ يابني لعل عبدالله…….
_لاتقلقي سيدتي سأعيدها لك!!
طلبت من سوسن والعم صالح أن يغلقا العيادة وأن يهتما بإيصال السيدة زينب إلى منزلها حتى أعود.
قالت سوسن : اطمئن يادكتور سأكون معها في منزلها حتى تعود، ثم نظرت نحو السيدة زينب، هل تقبليني ضيفة عندك ياخالة؟؟
_بالتأكيد يابنتي بكل سرور.
شكرتُ سوسن كثيراً وأسرعت بسيارتي متجهاً إليك، وهاأنا الأن بين يديك ياعادل، لا أعلم ماذا سنفعل؟
_ سنتأكد من أمك طبعاً من صاحب هذه الصورة؟
………….
في منزل والدة أحمد…
الساعة الخامسة تماماً
_ الووو…. كيف حالك ياأمي؟
_ أنا بخير، هل عدت للمنزل أخيراً؟؟ لقد تأخرت كثيراً، واتصلت بك أكثر من مرة ولكنك لم تجب!
_أعتذر منك ياأمي ، انشغلت مع إحدى المريضات ولم انتبه لهاتفي، ولكن هل ستتأخرين!
سأكون في المنزل في تمام الساعة السابعة بإذن الله، هل تريد شيئاً؟
_كلا كلا أنا في انتظارك!
………..
ظل عادل وأحمد يترقبان حضور والدة أحمد حتى ملَّ أحمد من الإنتظار وقرر الدخول لغرفة أمه والإطلاع على حقيبة المستندات الرسمية خاصتها.
أحضر أحمد الحقيبة وبدأ مع عادل بتفحص الأوراق
صرخ عادل قائلاً : غير معقول أنظر، أنظر ياأحمد!!
_ماذا ماذا هناك ياعادل؟
تجمدت قدما أحمد عن الحراك وهو يقرأ إحدى الأوراق الطبية الخاصة بأمه، أما عادل فقد ألجمته المفاجأة عن الكلام!، سقط أحمد من هول الصدمة وصرخ عادل وهو يحاول إنقاذه،
_ أحمد أحمد أرجوك يارفيقي كن قوياً.
حاول عادل أن يساعد أحمد على التنفس، في تلك الأثناء دخلت أم احمد ، وتفاجأت بإبنها ملقى على الأرض، وحقيبة المستندات مفتوحة!!
طلبت من عادل مساعدتها لحمل أحمد على الكرسي
ثم الإتصال بالاسعاف حينها…
كان عادل ينظر للسيدة فاطمة في ذهول فهي لم تبكي ولم تتفاجأ مما حصل وكأنها كانت تعلم أن هذا الحدث سيكون في يوم ما، لقد كانت متماسكة وصبورة
جلست السيدة فاطمة على السرير تمسك بيد أحمد في حنان وتنتظر افاقته… ماإن أفاق أحمد حتى ارتمى في أحضان السيدة فاطمة باكياً أمي….. أمي.
مسحت السيدة فاطمة بكفيها على رأس أحمد وبدأت تغني له أغنيته التي كانت تهدهده عليها وهو صغير في طفولته حتى ينام، تنهدت ثم قالت:
لقد جاء اليوم الذي كنت أخشى قدومه، نعم أنا لست أمك ياأحمد، أنا عقيم كما قرأت في التقارير الطبية… لقد كنت في ذلك اليوم بالمستشفى، مرافقة لأختي التي ولدت للتو،…. وكنت أنت في حضن إحدى السيدات التي كانت تصلي أمامي وتحتضنك وهي تبكي.
لقد جاءت بك الأقدار إلى حضني ، كنت أشعر بوجع كبير في قلبي، بمساحات شاسعة أضيع فيها كلما سمعت أن فلانة رزقت بمولود، يبدو أن أمك لم يكن لها أحد في هذه الضاحية، وطلبت مني الإعتناء بك حتى تخرج من غرفة العمليات ودعتك وودعتني واحتفظنا بالأرقام للتواصل.
كان عمرك حينها سنتان، انتظرت ولادة أختي وولادة أمك وأنشغلت كثيراً بالعناية بك وبإختي، كانت فرحتي بوجودك في ذلك الوقت كبيرة وخرجت من المستشفى برفقة أختي ولم انتبه لإتصالات أمك وقتها، ثم انطفأ شاحن جوالي فجأة!!! في نهاية ذلك المساء عاودت الإتصال بأمك كثيراً لإطمأنها ولكني وجدت جوالها مغلق
حضرت للمستشفى وكنت معي، سألت عن أمك، فاخبروني أنها في غيبوبة الأن، ولن تفيق بسبب وضعها النفسي لفقدها جنينها وزوجها، بكيت كثيراً لأجلكما ، وكنت كل يوم أزورها وأضعك بين أحضانها يابني، وبعد أربعة أيام، علمت أنه تم نقلها لإحدى مستشفيات المدينة لتدهور وضعها الصحي والنفسي، كررت الإتصال بها لعل احد أقاربها يرد علي لكن لم يجبني أحد.
لقد كان من الثقل علي أن اعتني بك ياأحمد، بعد رحيل أمك. لم أعود للمستشفى لأني تمسكت بك كثيراً. وخشيت أن يأخذوك بعيداً عني!! ومنذ ذلك الحين عاهدت نفسي على الوفاء بعهدها. واعتنيت بك كثيراً، ولأني لم أكن أمتلك أي أوراق رسمية لك، استطاع زوجي عن طريق أحد معارفه استخراج أوراق تثبت أنك ابننا….لم أشأ أن أخبرك ياأحمد بأي شئ،. حتى لا أرهق نفسيتك، وحتى لا تعيش تائهاً في هذه الحياة، لقد بذلت لأجلك الغالي والنفيس يابني، بل طلبت من اختي حينها أن ترضعك فقط لتكون ابناً لي فعلاً.
إنِي بَلغتُ بهِ بِالحُب مَنزِلةٌ
رُوحِي بِرُوحِهِ والأجسَادُ تَنفَصِلُ
حتى إني خشيت من أحلامك التي كنت تراها هل تذكر؟ لقد كنت تقول لي هناك إمرأة كانت تأخذ قلبي من صدري ياأمي وتمضي وأنا أصرخ لاتأخذيها مني لاتأخذيها مني، لقد كنت أخشى أن أكون أنا هذه المرأة التي انتزعت منك فؤادك ياأحمد ، سامحني يابني، لقد بذلت جهدي لأعيدك لأمك، أنا لم أنوي أبداً اختطافك صدقني، بل أنا لم أتوقع أنك ستنسى كل هذا، كنت أخاف أن تتذكر شيئاً من الماضي، ولكنها رحمة الله بي وبقلبك ياصغيري!
ساد صمت طويل بين أحمد وعادل….. ونظرات كانت تقول حديثاً كثيراً بينهما وترويها
”وَلَقَد هَمَمتُ بَأنْ أقَولَ ولم أقُل
مَا أَوجَعَ الكَلمَات سَاعةَ تُحْبَسُ.”!!
نظر أحمد لأمه قائلاً: هل تذكرين اسم السيدة ياأمي؟
_نعم يابني وأحفظ ملامحها جيداً؟
_ نظر أحمد لعادل في صمت أذهله عن إكمال سؤاله،
وكأنه يحيل إلى عادل إكمال الحديث
قال عادل : مااسمها ياخالتي؟
_ زينب، هذا هو اسمها الذي أعرفه ، وأحمد هو اسم طفلها الذي اعطتني إياه . و لم أغيره أبداً.
وضع أحمد رأسه على الوسادة ، وانهمرت دموعه…. كان يشعر برغبة شديدة لأن يطير نحو أمه نحو السيدة زينب
نظر أحمد إلى أمه وقال لها : كان هذا هو السر الذي أسر قلبي في عينيها، كنت أنظر إليها ياأمي …. أشعر أني أعرف هذه العينان جيداً ، لقد كنت أشعر أني ألتقيت بهما في مكان ما، لكن لساني حينها كان عاجزاً عن أن يشرح الضياع والحزن الذي كنت أعانقه صباح مساء!!
وأنامُ يا أمي وَفي صَدري كلاَمُ”
أأُبديهِ اذا ضاقت بيَ الاحلامُ
لم تفهم السيدة فاطمة من أحمد شيئاً، ونظرت لعادل تسأله في صمت عن ماذا يتكلم أحمد؟؟
نهض أحمد من فراشه ، وقال لأمه : لو عادت أمي زينب الأن ياأمي، هل ستفتحين لها بابك، وتودعيني!
_ وكيف يطيق قلبك أن تهجرني ياأحمد بعد كل هذه السنين؟
ألا يامن سكنتَ القلب كيفَ تهجرهُ
كأنك يومًا لم تكن وسط وجداني”
_ ألم تقولي أنك لم تقصدي خطفي!!
_ بلى بلى والله يابني صدقني، لكن هل تعلم كم من السنين مضت يابني؟؟ من المستحيل أن تعود امك بعد كل هذا الوقت
_ ولكنها أم، أم، ياأمي…..
نظرت السيدة فاطمة لأحمد في صمت، وأطرقت رأسها والدمع يجري من عينيها وقالت : نعم إنها أم وقلب الأم ليس كقلبي ياأحمد!
مد أحمد يديه لأمه، فقبضت عليها تسنده، وقال لها :
لا تحزني يا مُنى الدُّنيا وزينَتَها
فإنْ حَزِنْتِ فهَلْ في الكَونِ مُبتهَجُ؟!
هيا ياعادل احملنا وأمي إلى حيث المدينة الفاضلة؟
إلى تلك الجنة التي قال عنها أبي لازيف فيها ولا خداع!!
نظرت فاطمة لأحمد متعجبة إلى أين سنذهب؟؟
أخرج أحمد صورة والده من جيبه، وقال لأمه: أنظري ياأمي
اندهشت السيدة فاطمة من الشبه الكبير في الصورة!! وتسائلت من هذا إنه يشبهك كثيراً ياأحمد، من أين أتيت بها؟
_ الآن ستعرفين ياأمي.
…….
في السيارة..
اتصل أحمد بسوسن قائلاً لها : هل لازلتِ في منزل السيدة
زينب؟
_نعم يادكتور أنا معها ومنذ أن تركتها ودمعها لم يجف لقد تفطر قلبي عليها!!
_حسناً أرسلي لي موقعك الأن وأخبريها أن إبنك الدكتور أحمد قادم إليك.
دهشت فاطمة وهي تستمع للمحادثة، وصرخت وهي تتلعثم ما.. م.. ماذا هل أمك هل زينب هنا هل عادت؟
ظلت السيدة فاطمة تهز أحمد بيديها، ولكن لم يستطع أن يجبها بأي شئ….. كانت دموعه تهوي بروحه إلى عمق بعيد لايعرف أين سيستقر ؟
وصل أحمد أخيراً منزل السيدة زينب التي لم تحتمل البقاء في منزلها منذ عرفت وتيقنت صدق احاسيسها ، خرجت لباب المنزل تنتظر أحمد في الطريق،
ماإن رآها أحمد حتى أمر عادل صارخاً بالتوقف، خرج من السيارة وركض نحوها يقبلها ويحتضنها، لم يكن لأحمد أي شعور تجاه السيدة زينب سوى تعاطفه معها…. ولكنه الأن وهو يقبل قدميها ويعانقها كان يشعر بفراغ لم يكن موجوداً لكنه إمتلأ بشوق الدنيا كلها في صدره، وبأنين يفتت صلابته، وبفرحة تروي عطشه.
. وإليكَ حنَّ القلبُ رُغم تحفُّظي
يا مُلهم شِعري،هل فؤادُكَ يشعرُ؟
…………..
ظل أحمد والسيدة زينب متماسكان بأيديهما بقوة ، وكان يمسح أحمد بانامله دموعها وهو يبتسم ، ويهمس في أذنها لقد عدت ياامي أخيراً، أنا أحبك أحبك كثيراً، لم يكونا يرا احداً حولهما ولم يشعرا بوجود سوسن ولا عادل ولا السيدة فاطمة وكانت السيدة زينب كلما نظرت لأحمد عادت تحتضنه وتقبله من جديد.
_ لماذا ياأمي، لماذا لم تخبريني من أول يوم دخلتي فيه عيادتي بالحقيقة، لماذا صبرتي كل هذه الأيام؟
_لقد كنت خائفة عليك يابني، كنت أخشى أن افقدك حين تعرف الحقيقة، لقد كنت متيقنة انك ابني منذ رأيتك، منذ أخبرتني جارتي أنها رأت طبيبا يشبه زوجي، أسرعت إلى عيادتك وتفحصت ملامحك، وقرأت عيناك، كنت أود أن ارتمي بين يديك، لكني خشيت على قلبك، خشيت أن افقدك، فقررت الصبر قليلاً،. حتى أمهد لك الأمر، وكان حينها من شأني مارأيت، وعندما وجدت قبولاً منك نحوي، أخبرتك بقصتي.
_ بكى أحمد وهو يقبل كفي أمه وجبينها ويعانقها بمرارة قائلاً : ما أعظمك ياأمي، وما أعظم صبرك!! اقتربت السيدة فاطمة منهما وقالت: زينب نعم أنت زينب
نظرت زينب إليها وقالت : وأنت فاطمة أنت من وضعت عندها طفلي لم تتمالك السيدة فاطمة نفسها واحتضنت السيدة زينب بقوة واعتذرت منها كثيراً، وهي تبكي والله مانويت سرقة ابنك صدقيني يازينب.
قبلت زينب جبين السيدة فاطمة
وابتسمت لها قائلة: شكراً لحفظك الأمانة بأكثر مما اتخيل يافاطمة!
عاش أحمد في منزل والدته السيدة زينب، وظل باراً وفياً للسيدة فاطمة التي انتقلت للسكن معهما.
مرت السنوات… لينمو ويكبر الفرع في عائلته. وقف أحمد متأملاً ذات مساء وبجواره سوسن زوجته احتضنها بحب وهو يقول : سيعيش طفلنا بإذن الله وسط عائلته وأهله، لن نبتعد وسنعلمه أن أسرته سر قوته، وأنه لا إمتداد لمن لايستند بعد الله على قومه وعشيرته….
نظر أحمد إلى السماء وهو يتمتم
أمي عطاياها تفوق أحلامي
طالت سحابات السما ومزونها
تبغى تنسيني ألم أيامي
وتشيل همي حِمْل فوق متونها
ابختصر ابياتي وإلهامي
في بيت واحد بكتبه لعيونها
أقدر أعيش العمر مع آلامي
بس أمي اللي ما أعيش بدونها
رحمك الله ياأبي…. لقد كانت المدينة الفاضلة سبباً في فقدي لأجمل جنة و حياة وسنوات من عمري! الحمد لله على قضاء الله وقدره ياأبي فلكل شي في هذه الحياة حكمة، ولقد عوضني الله بأمي التي ربتني وأمي التي انجبتني وصرت أعيش بين جنتين لا أرضى عنهما بديلاً في مدينتك الفاضلة…
وإن كنت ياأبي ستحيا من جديد، فإني على يقين أنك ستدرك قيمة أن يعيش المرء وسط أهله مهما بالغوا في ظلمه، وأن الصبر على أذاهم، خير من الرحيل عنهم وهجرهم، وأن النعيم المقيم ليس إلا في جنة الآخرة. قال الرسول صلى الله عليه وسلم :(المؤمِنُ الذي يُخالِطُ الناسِ و يَصبِرُ على أذاهُمْ ، أفضلُ من المؤمِنِ الَّذي لا يُخالِطُ النَّاسَ و لا يَصبرُ على أذاهُمْ)
تمت…