الحقيقة بين الوجود والماهية في الفكر الأرسطي

تعكس الفلسفة التحديات التراكمية التي واجهتها البشرية منذ أقدم العصور، ولعل مسألة الحقيقة تعد واحدة من أكثر القضايا تعقيداً وإثارة للجدل. يسعى الإنسان دائماً لفهم ما يكمن وراء الوجود، وما هي الماهية التي تشكل جوهر الحقيقة. في هذا الإطار، يحتل التراث الفلسفي لأرسطو مكانة بارزة، إذ أثرت أفكاره على مجريات الفكر الغربي منذ القرن الرابع قبل الميلاد وحتى يومنا هذا وخاصة في تحديد الوجود والماهية

يقدم أرسطو في فلسفته تصوراً مقابلًا بين الوجود (الذي يتعلق بالكيان) والماهية (التي تشير إلى جوهر الكيان). يعتبر أرسطو أن كل الأشياء تمتلك وجوداً حقيقياً، ولكن هذا الوجود لا يمكن أن يفهم بشكل كامل دون الانغماس في طبيعتها وخصائصها الجوهرية فوجود الشيء يختلف عن ماهيته، إذ يمكن أن يتواجد شيء ما دون أن يعبر عن جوهره الحقيقي فماهي الحقيقة معرفة

 

في رؤية أرسطو، ترتبط الحقيقة بمعرفة الأشياء كما هي، وهو ما يعرف بقانون الهوية: “الشيء هو ما هو”. فالحقائق ليست مجرد أحكام مفرغة من محتواها، بل هي تجليات للواقع تمتد عميقاً في طبيعة الأشياء. هنا، يُعتبر الانتباه إلى الواقع واستخدام العقل أداةً رئيسية لفهم الحقيقة، حيث يتطلب التحقيق في الوجود تمييزاً دقيقاً بين الشكل والمادة فماهي علاقة الوجود بالماهية ؟

إن النظر إلى الماهية من منظور أرسطو يعني البحث في العوامل المكونة للأشياء، بينما يُعَدُّ التحقيق في الوجود سبيلاً لاكتشاف كيف تتجلى هذه الماهيات في العالم. ترتبط الماهية بخصائص الشيء، بينما يعدد الوجود تجاربنا الحياتية؛ لذا، فإن الفهم العميق للحقيقة يتطلب تآلفاً بين المفهومين. يظهر هذا الانسجام بين الوجود والماهية في فكرة “العرضيات” أو “العوامل الثانوية”، التي تخبرنا أكثر عن كيفية تفاعل الأشياء في الواقع ولماذا تتغير.

تأثرت رؤية أرسطو بشكل كبير بالفكر الفلسفي اللاحق، خاصة تأملات ابن رشد الذي كان له دور محوري في توصيل فلسفة أرسطو إلى العالم الإسلامي ثم إلى أوروبا. أعاد ابن رشد تفسير أرسطو بطريقة تعكس تعقيدات الفكر العربي الإسلامي، فهو حاول جمع بين العقل والنقل، مما أضفى بُعدًا وجودياً إضافيًا للنقاش حول الماهية والوجود.

في سياق وجودي، يمكن النظر إلى هذا البحث عن الحقيقة كجزء من رحلة الإنسان نحو الفهم الذاتي. فكلما سعى الفرد لتفسير الوجود من حوله، كلما جوبه بأسئلة وجودية تتعلق بمعنى الحياة، الغرض من الوجود، والدور الذي يلعبه العقل في تشكيل هذه الرؤى. هنا تتجلى القيمة الفلسفية لفكر أرسطو، الذي يدعو الناس إلى التفكير النقدي وتطوير وعيهم الذاتي

يظل الفكر الأرسطي كنزاً حقيقياً في معركة البشرية لفهم الواقع. بين الوجود والماهية يكمن ميكانيزم الحقيقة، وهو ما يتطلّب منا كفلاسفة ومفكرين التعمق في تلك الأسئلة الوجودية والتمعدن في الجذور الفكرية التي تركها أرسطو. إن رحلة البحث عن الحقيقة ليست مجرد مسعى معرفي، بل تعكس البعد الإنساني العميق للحياة، مما يجعلها تفوق بكثير حدود الفلسفة التقليدية وتدخل في عمق التجربة الوجودية.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى