بقايا مقال قديم:” رقصة الديك المذبوح”

كان يوما عجيبا،غريبا،مريبا، يوم ليس كسائر الايام ، لقد جسد منعطفا تاريخيا في حياة مصطفى، لقد كان بداية تاريخ جديد لعائلته أيضا. لازال يذكر ذلك التاريخ ، العشرون من جوان لسنة 2003 الموافق ليوم الجمعة آنذاك. ستصدر في ذلك اليوم نتائج امتحانات الباكالوريا. كانت جميع العائلات التونسية تنتظر في شغف تلك النتائج ما عدا عائلة مصطفى التي نست أو تناست بالأحرى نتيجة إمتحان ابنها الأصغر، ذلك الطالب في شعبة الاقتصاد والتصرف. فما يشغل بالهم وقتها هو فقدان رب الأسرة، الاستاذ عبد المعز الذي انقطعت أخباره في العراق منذ تعرضها للغزو الامريكي في 20 مارس 2003، لقد سافر والد مصطفى الى العراق منذ خمس سنوات لتدريس التاريخ في جامعة بغداد، لقد كان قوميا عروبيا وبعثي الهوى، لذلك كان مناصرا لحزب البعث العراقي ومؤيدا لافكار زعيمه صدام حسين تأييدا مطلقا. و أوهم نفسه بأن النظام العراقي قادر على صد الغزو الأمريكي، فظل هناك متجاهلا تحذيرات زوجته وأبنائه واقاربه. وقد تكفل الخال حسن أو أبو علي كما يحلو لمصطفى وعبد العزيز مناداته بعملية البحث عنه ومعرفة أخباره بإعتباره موظفا ساميا في وزارة الخارجية التونسية.لقد كانت أياما عصيبة مرت بها عائلة مصطفى، في ظل غياب عائلهم الوحيد، لقد نفذت الاموال التي ادخرتها أمه من مصروف المنزل، و خجلت الاقتراض من أخيها الذي لم يبخل قط في مساعدتها، الا أنها كانت عزيزة النفس، عظيمة في شموخها وصبرها وتحملها لمشاق الحياة. انها الأم والأب والأخت والسند لإبنيها الوحيدين. عانت العائلة حينها الضيق الشديد، كما عذبهم الحنين والشوق والاشتياق لرب الأسرة الغائب، فلم يفقدوا الأمل في وجوده على قيد الحياة. في صبيحة ذلك اليوم الذي لا ينسى، سمعت الأم طرقا متزنا على الباب بل لعله كان يائسا حينها، فتحته فإذا به الخال حسن، لقد بدا حزينا، مرتبكا، يائسا،مترددا ولا يدري ماذا سيقول لأخته الوحيدة، كيف سيخبرها بهذا الخبر المشؤوم، احتضنها ثم قبل جبينها وجلسا على الأريكة في هدوء حذر ثم قال متلعثما:” اختي الغالية …لقد…لقد.. كما تعلمين… عبد المعز كان يقطن في بغداد…. وقد…وقد وصلتني أخبار مؤكدة من السفارة التونسية ببغداد ومن الخارجية العراقية بأن .. بأن صهري عبد المعز قد سقط شهيدا نتيجة تفجير انتحاري استهدف مطار بغداد الدولي منذ أسبوع. لقد تم التعرف على جثته، وستصل الى تونس في الأيام القليلة القادمة.” نزلت تلك الكلمات كطلقات رصاص على قلب أخته فأطلقت صيحة مدوية ثم انطلقت في نوبة بكاء هستيرية. استيقظ مصطفى على ذلك الصوت الذي كان أشد من هزيم الرعد في ليلة شتوية عاصفة. نهض من سريره واتجه بسرعة نحو غرفة الجلوس، تساءل عما يحدث فأخبره خاله بالحقيقة. لم يتمالك نفسه حينها ولم يستطع التظاهر بالصمود وجلس مذهولا، فلم يصدق ما سمعه، لعله كابوس فضيع. بعد برهة، فتح باب المنزل فجأة، هاهو عبد العزيز قد أتى والفرحة تملأ أسارير وجهه، مناديا مصطفى قائلا:” باشا يا باشا، هنيئا يا أخي، لقد شرفتنا، لقد رفعت راية عائلتنا عاليا، لقد نلت شهادة الباكالوريا بإمتياز، لقد احتلت المرتبة الاولى في شعبة الاقتصاد والتصرف على مستوى الولاية ، كم أنا فخور بك يا أخي.” لقد استغرب مصطفى الأمر، حاول استيعاب الخبرين فلم يقدر، فارتسمت على وجهه ابتسامة دامعة، احتضنه أخوه الاكبر وقد استغرب برودة أضلعه، كان مصطفى جثة هامدة حينها. كما اندهش عبد العزيز أو عزوز كما يرغب أقاربه في مناداته من ردة فعل أمه، التي لم تنطق بكلمة،لعل البكاء قد أنهكها، وظنت أن الفرحة ستفارقها للأبد. وما إن أخبره خاله بذلك النبأ المشؤوم حتى تحولت سعادته حزنا وأمسى حديثه صمتا مطبقا. بعد أسبوع ، حلت جثة الشهيد بأرض الوطن وقد نظمت على شرفه جنازة مهيبة أشرف عليها والي الجهة شخصيا ومسؤولون رفيعون بالجهة، لقد جاب موكب الجنازة شوارع المدينة حتى يوارى الشهيد مثواه الأخير. تقدم الأخوان الجنازة حاملين نعش الفقيد، وقد التحف العلم التونسي، لم يقدر مصطفى على إخفاء دموعه لحظة سماعه عويل النساء وزغاريدهن وقد اعتللن شرفات المنازل والأسطح رفقة أبنائهن لتوديع الفقيد ، والد مصطفى كمال “باشا”، أما عبد العزيز، فقد أظهر ثباتا انفعاليا شديدا لحظة سماع تلك الحشود الغفيرة تردد بصوت واحد” لا اله الا الله والشهيد حبيب الله، لا اله الا الله والشهيد حبيب الله.” كان يوما عظيما فارقت فيه الجهة أحد عظمائها. لقد طبع ذلك اليوم في مخيلة مصطفى، فجأة علا صوت الراديو على نغمات صباح فخري قاطعا ترحاله العميق في الزمن، وتقول كلمات الأغنية” مش قادر أقول أنت الجاني حأصبر على طول على أحزاني.” فمضى الشاب يرقص في حزن رقصة الديك المذبوح ، مدندنا ” حأصبر على طووووول على أحزاني”، كانت حركاته أشبه بحركات رجال الصوفية، رفع يداه الى أعلى في وقار، لعله يطلب العون وينشد الأمل. لقد تيقن مصطفى منذ سنوات خلت أن الفراق قدر لا يرحم أحدا، فأضحى منذ ذلك الحين يستقبل أحزانه وأفراحه على حد السواء بإبتسامة دامعة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى