هل يُعدّ الفنّ ضروريًا للوجود الإنساني؟


أميرة الحداد
في الصراع حول المفاهيم وتحديد الضروريات للحياة الإنسانية، يعد الفن أحد المواضيع التي احتلت جدلاً بين من يعتبره ضرورياً أو غير ضروري للوجود الإنساني، وماهي الحجج المؤيدة لعدم ضرورة الفن والمؤيدة لضرورته حول هذا المنظور للفن، ولكي نصل إلى صورة واضحة لأهمية وجود الفن في حياة الإنسان، ومدى ضرورته للوجود الإنساني، لابد لنا أن نتعرف على مستويات الضروريات الوجودية، ويمكن تصنيفها إلى مستويين المستوى الوجودي الأول له ضرورات يتحتم وجودها لاستمرار النفس البشرية واستمرار وجودنا ككيان بشري، أما المستوى الوجودي الثاني فهي الضرورات التي يستلزم وجودها للارتقاء بجودة الوجود الإنساني.
وعلى هذا الافتراض فإن جميع الحجج المؤيدة لضرورة الفنّ تتعارض مع المستوى الوجودي الأول من الضرورات كلياً، فالفن هنا فعلياً ليس له دور في استمرارية النفس البشرية، إلا أنها تتوافق في جملتها مع المستوى الوجودي الثاني للضرورات المذكورة.
أما فيما يخص الحجج المؤيدة لعدم ضرورة الفن فإن الحجة الأولى والتي تخص الاحتياجات الأساسية فإنها تتوافق تماما مع المستوى الوجودي الأول. إلا أنها تخالفها على المستوى الوجودي الثاني جملة وتفصيلاً.
وبشيء من التفصيل يمكن القول بأن قوة الحجج المؤيدة لضرورة الفن على المستوى الوجودي الثاني تكمن في ارتباطها في التعبير عن الذات، فعندما يقول أنه ليس هناك ضرورة فكأنه حكم تعسفي يطلب من الإنسان أن يعطل شعوره بالجمال، وقد يطال ذلك الحكم على الحواس، ليحكم عليها بالتعطيل وإيقاف الخدمات، وبالتالي يُحكم على الإنسان أن يعيش في جمود وحياة رمادية خالية من البهجة، ربما يقال أن هذا ضرب من المبالغة في تمجيد الفن، ولكن أليس التعبير عن ذات الإنسان مكن الآخرين من فهم الذات الإنسانية ودراستها؟ ومعرفة إلى أي مدى يمكن أن تصل إليه المشاعر والأفكار؟، ألم يكن دراسة العمل الفني لغزاَ جاهَد المفكرين والعلماء في تفسيره وفك رموزه ومحاولة معرفة كيفية وصول الفنان إلى منتهى الدقة والاتقان؟.
إن الدراسات العلمية زاخرة بالبحوث والمحاولات لمعرفة المراحل التي مر بها الفنان والتي وصلت به إلى نتيجة إبداعية، بل امتدّ إلى استعارة تجربته الإبداعية لتطبيقها على الآخرين لاستثمار ملكاتهم وأدواتهم الخفية! وقد تولد توجها في توجيه التفكير بما يسمى التفكير الابتكاري لتنشأ نهضة صناعية استمرت في التوالد حتى يومنا هذا.
وأما بشأن أن الفن وسيلة للفهم والتواصل، فلا يمكننا أن نغفل عن مكانة الفن سلطته كوسيلة التواصل بين الماضي السحيق والحاضر الآني، من خلال الرسومات المنقوشة التي تم رصدها في تلك الحقبة، على الرغم من أنه قد يكون الغرض منها التدوين والتوثيق وليس من أجل التعبير عن الذات، إلاّ أن التعبير بالفن بحد ذاته وسيلة اتخذها الفنان لإيصال أفكاره ومشاعره للمجتمع فلم يخرج الفن عن كونه وسيلة للتواصل.
وسنتناول زوايا أخرى من الحجج من حيث الذوق الشخصي، وحجة أن جميع الناس لا يحبون الفن أو يقدرونه مما يجعله أمراً غير ضروري للجميع، حيث أن “جميع” تدل على التعميم على جميع الناس، ويعد ذلك إجحاف في تنوع أذواق الناس واستمتاعهم بالفن، وتعتبر وجهة نظر محصورة فليس هناك كلٌ للكل، بل هناك جزءٌ من كل. فالرفض هنا يتمحور حول التعميم الكلي لجميع الناس بعدم محبتهم للفن.
أحد الحجج تقول بأن الفن رفاهية وعدم إمكانية إتاحته للجميع بسبب التكلفة المادية، لقد تبنت هذه الحجة العمل الفني المكلف بأنه المعيار العام للعمل الفني، في حين أنه على اتساع أنواع الفنون عبر التاريخ، فإن المادة لم تكن عائقاً أمام الفنان للتعبير بالفن عن أفكاره الإبداعية، وهناك زخم هائل من الأعمال الفنية لا تعتمد على شراء المواد والأدوات. وبذلك فهي حجة ضعيفة لا يمكن أن يعول عليها عدم ضرورة الفن.
أما بشأن ما تم اعتباره تأثيرات سلبية لبعض أنواع الفن على الفرد في المجتمع، فإنه يبدو وكأنه احتمال وليس حجة مثبتة، فليس هناك وسيلة قياس يمكن الارتكاز عليها لمعرفة هذا النوع من النتائج لجميع الأفراد وبالتالي ليست لها مكان كحجة تلغي ضرورة الفن.
ربما علينا أن نتطرق إلى المعيار الذي يحدد الفن الجيد والرديء، فمن خلال تاريخ النقد الفني نجد أن مبادئ العمل الفني استنبطت من الأعمال الفنية المطروحة، والتي حكم عليها بالجيدة كمرتكزات يبنى عليه العمل الفني، وبالتالي قياس جودة العمل والحكم عليه، وفي حال كان المتلقي عابر لا يتقن من المبادئ شيئاً، فإن الانطباعات الجيدة التي ترصد تجاه الأعمال لأكبر شريحة من الناس تجعله يُوضَع في مصاف الأعمال الجيدة لانعكاسها في رأي المتلقي الذي ربما اعتمد على خبرته الجمالية في التذوق للعمل الفني. لذا هنا العمل الجيد والعمل الرديء أحكام تطلق على الأعمال من شريحتين شريحة النقاد وشريحة المتلقين من المجتمع.
هناك محاولة جاهدة في اعتبار الفن جزء من العملية التعليمية من منطلق ضرورة الفن، وبنيت عدة مناهج لتدريسها كمادة يتم رصد الدرجات لها، إلا أن بعض المناهج لم تحقق في توثيق الصلة بين الطالب والفن ربما كان السبب وضع الدرجات التي تأخذ بالفنان منحى آخر بعيد عن حرية الإرادة خصوصاً أن التقييم للعمل الفني لم يراعي القدرات الفردية ورغبة في التعبير بالفن وفي موافقته بالتعبير بالفن أو بغيره، ربما كان الأحرى التركيز على التربية الجمالية والتذوق الجمالي لتكوين خبرات جمالية، ثم يستفاد منها إما بالتعاطي مع الفن كتعبير أو بالتذوق الفني للأعمال الفنية، وبعيداً عن القياس بالدرجات لتمكين حرية الإرادة في التعبير وتمكين الفن بصورة صحية دون وجود سلطة تقيد وجوده.