مقالات

المخاطر الخفية لزراعة النخيل في المدن المعاصرة

د.عبدالمعتني المزروعي

د.عبدالمعتني المزروعي

تُعدّ النخلة رمزًا متجذرًا في الثقافة العربية والإسلامية، تحمل بين جذوعها إرثًا تاريخيًا وقيمة زراعية راسخة في الوجدان الجمعي. وانطلاقاً من هذه الرمزية باتت عنصرًا أساسيًا في تنسيق الشوارع والميادين العامة، خصوصًا في مدن الخليج وشمال إفريقيا، حيث تُستحضر كرمز للموروث والهوية الثقافية. غير أن هذا الحضور الجمالي لا يخلو من تحديات ومخاطر حين يُنقل إلى البيئة الحضرية الحديثة. فقد كشفت التحولات المناخية والتوسع العمراني المتسارع عن مجموعة من المخاطر المرتبطة بزراعة النخيل في الشوارع، تتراوح بين أبعاد بيئية واقتصادية ومجتمعية. هذا الواقع دفع عددًا من المدن والبلديات إلى مراجعة سياساتها، مع طرح تساؤلات جوهرية حول مدى مواءمة النخيل لمتطلبات المدن الذكية والمستدامة، ويأتي هذا التوجه منسجمًا مع رؤية المملكة العربية السعودية 2030، التي تمثل إطارًا استراتيجيًا يقود التحول نحو التنمية المستدامة. ففي عام 2021، أُطلقت مبادرة “السعودية الخضراء”، والتي تهدف إلى زراعة 10 مليار شجرة داخل المملكة، في مسعى وطني لمكافحة التصحر، وتحسين جودة الهواء، وتعزيز التنوع البيولوجي. وتستند المبادرة إلى اختيار أنواع نباتية محلية عالية الكفاءة البيئية، بما يعكس تحولًا نوعيًا في السياسات والممارسات الحضرية نحو بيئة أكثر توازنًا واستدامة. وتتقاطع هذه التوصيات العلمية والدولية مع التوجه الوطني، في الدعوة إلى إعادة تقييم النخيل كخيار تشجيري في الشوارع، والتركيز على أنواع نباتية توفر مظلة خضراء واسعة، وتساهم في تحقيق أهداف التنمية البيئية دون المساس بالقيمة الرمزية للنخيل في سياقات محددة ومناسبة. ويأتي حديث أمين منطقة عسير، المهندس عبد الله الجالي، الذي نشر ببعض المواقع الالكترونية بتاريخ 18 يوليو 2025 بأن “النخل مكانه الطبيعي هو المزارع، وليس المرافق العامة”، مؤكدًا أن زراعته في الشوارع تمثل عبئًا اقتصادياً من حيث الزراعة والصيانة، بالمقارنة مع أشجار الظل التي تُعد أكثر كفاءة في تقديم الظلال وخدمة المشاة والمساحات الحضرية. وقد مثّل هذا الحديث جرس إنذار لمراجعة سياسات التشجير في الشوارع والميادين والحدائق العامة، ودعوة صريحة لإعادة النظر في ملاءمة النخيل للبيئة الحضرية. وقد عززت الدراسات العلمية هذا التوجه، حيث أظهرت دراسة صادرة عن جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس (UCLA, 2023) أن النخيل، بالمقارنة مع الأشجار ذات الظلال الكثيفة، لا يحقق تظليلًا فعّالًا ولا يسهم في خفض درجات الحرارة بالمدن. وأكد تقرير منشور على موقع Luskin Innovation ,2024) (افتقار النخيل للقدرات البيئية التي تتطلبها المدن المعاصرة، مثل امتصاص الكربون وتحسين جودة الهواء. كما نبّه تقرير صادر عن صحيفة (The Guardian ,2024) إلى أن الظل لم يعد عنصرًا ترفيهيًا، بل ضرورة مناخية، ما يجعل من الضروري اعتماد معايير علمية دقيقة في اختيار أنواع الأشجار للبيئات الحضرية. وتدعم هذه الرؤية خطة,2021) Coachella Valley Urban Greening Plan) التي أظهرت أن درجات الحرارة السطحية قد تنخفض بما يصل إلى 50درجة فهرنهايت (نحو 10 درجات مئوية) في المناطق المظللة بالأشجار مقارنةً بالمواقع المكشوفة، مما يعكس أهمية اختيار أشجار ذات كفاءة عالية في التظليل والتبريد المناخي.

من الناحية الاقتصادية، أوضحت تقارير مثل (Los Angeles Times ,2023) أن النخيل يتطلب صيانة دورية مرهقة وتكاليف مرتفعة لمعالجة السعف المتساقط، فضلًا عن غياب عائد إنتاجي حقيقي، لا سيما في الأنواع المخصصة للزينة. كما حذرت (The Washington Post ,2025) من الأثر السلبي لجذور النخيل على البنية التحتية، حيث قد تتسبب في تدمير الأرصفة أو التداخل مع شبكات الخدمات العامة.

أما على المستوى المجتمعي، فقد أبرزتThe Guardian ,2025) ) المخاطر الناجمة عن تساقط السعف الجاف، والذي قد يشكل تهديدًا لسلامة المارة والمركبات. كما أكدت تقارير صادرة عن UCLA ,2024) (، أن الأرصفة الضيقة المزروعة بالنخيل تعيق حركة ذوي الاحتياجات الخاصة وتحد من راحة المشاة، ما يضعف من كفاءتها الوظيفية في الفضاءات العامة.

وفي ظل التحول نحو المدن الذكية والبنية التحتية الخضراء، تزداد محدودية النخيل كخيار نباتي مناسب. فقد أظهرت أبحاث Urban Forest Research التابعة لوزارة الزراعة الأمريكية (USDA, 2020) أن الأشجار ذات الغطاء الورقي العريض تتفوق بوضوح في دعم الوظائف البيئية للمدن، كتقليل درجات الحرارة وامتصاص الملوثات. كما أوصى تقرير UCLA,2024)) حول عدالة الغطاء الشجري بضرورة تنويع أنواع الأشجار وتقليل الاعتماد على النخيل، نظرًا لضعف مردوده البيئي على المدى الطويل.

تُجمع الدراسات العلمية والتقارير الحضرية على أن زراعة النخيل في الشوارع لا ينبغي أن تعتمد على الاعتبارات الرمزية وحدها، بل يجب أن تخضع لتقييم شامل يأخذ في الحسبان كفاءتها البيئية، وجدواها الاقتصادية، وتأثيرها على جودة الحياة في المدينة. فبينما لا يُنكر أحد جمالية النخلة وأصالتها، فإن الواقع العمراني الحديث يفرض ضرورة مراجعة هذا الخيار، وتوجيهه نحو الاستخدام الأنسب ضمن البيئات الزراعية أو الرمزية الخاصة.

“النخل مكانه الطبيعي هو المزارع، وليس المرافق العامة”. عبارة تختصر العديد من المخاطر والتحديات، وتفتح باب النقاش العلمي حول أفضل ممارسات التخطيط الحضري الأخضر.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى