الزهد في الدنيا


حسن بن محمد منصور مخزم الدغريري
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله ، والصلاة ، والسلام على رسول الله ، وعلى آله ، وصحبه ، ومن والاه ، وبعد :
أيها القارئ الكريم : الزهد معناه شرعاً : ترك ما لا ينفع في الآخرة ؛ قال ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين ( ٢ / ١٢ ) : ” وسمعْتُ شيخَ الإسلامِ ابنَ تيميَّةَ يقولُ : الزُّهدُ تَركُ ما لا ينفَعُ في الآخِرةِ ، والوَرعُ تَركُ ما تخافُ ضَررَه في الآخِرةِ ، وهذه العِبارةُ مِن أحسَنِ ما قيل في الزُّهدِ والوَرعِ وأجمَعِها ” .
أخي القارئ : القرآن الكريم مملوءٌ بالتزهيد في الدنيا ، والإخبار بقلتها وانقطاعها ، وسرعة فنائها ، والترغيب في الآخرة ، والإخبار بشرفها ، ودوامها ؛ قال الله تعالى : ( وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ۚ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ ) ( طه : ١٣١ ) وقال تعالى : ( بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْر وَأَبْقَى ) ( الأعلى : ١٦ – ١٧ ) .
أيها القارئ الكريم : ليس المراد من الزهد رفض الحياة الدنيا بما فيها ، فهذا معنى خاطئ للزهد ، وإنَّما الزهد الحقيقي ترك ما يشغل عن الله تعالى من أمور الدنيا الفانية ؛ أمَّا ما كان عوناً على طاعة الله ، وقام العبد بحقِّ الله تعالى فيه ؛ فترْكُه من الرهبانية التي لم تأت بها شريعة الإسلام ، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم ؛ فهو أزهد الناس في الدنيا ؛ ومن اتبعه ، فهو الزاهد على الحقيقة .
وقد كان صلى الله عليه وسلم مع زهده في الدنيا يتزوج النساء ، ويقوم بحقِّ أهله ، ويجلب له الماء البارد ، ويحب الحلواء ، والعسل ، ويأكل طيب الطعام إذا وجده ، ويصبر إذا فقده ، وغير ذلك مما هو معلومٌ من سيرته صلى الله عليه وسلم .
وأغنياء الصحابة رضوان الله عليهم لم يمنعهم الغنى من الاجتهاد في العبادة حيث قال ناسٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ذهب أهل الدثور بالأجور يصلون كما نصلي ، ويصومون كما نصوم ، ويتصدقون بفضول أموالهم ) رواه البخاري ومسلم ، وقال صلى الله عليه وسلم : ( نعم المال الصالح للمرء الصالح ) رواه أحمد ، وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد برقم ٢٢٩ .
أيها القارئ : الزهد في الدنيا له مراتب :
١– الزهد عن الحرام ، وهذا واجبٌ ، وهو أعظمها .
٢– الزهد في فضول المباح ؛ كالزهد فيما لا يعني من الكلام ، والسؤال ، ونحو ذلك ، وهذا الزهد من الكمال .
٣– الزهد عن كلِّ ما يشغل عن الله تبارك وتعالى ، وهذا كمال الزهد .
أخي القارئ : للزهد الحقيقي الذي أمر الله به فوائد جمَّةٌ نذكر منها ما يلي :
١– أنَّه سَببٌ لمحبَّةِ النَّاسِ للزاهد ؛ فإنَّ الدُّنيا محبوبةٌ للنَّاسِ ، فمَن يُزاحِمُهم عليها يُبغِضونَه .
٢– راحةُ القلبِ والبَدن .
٣– التَّخلِّي عن داءِ الحِرصِ على الدنيا .
٤– حُصولُ البَركةِ فيما يدي الزاهد .
٥– اغتِنامُ العُمُرِ في طاعة الله .
٦– سَدُّ بابِ الظُّلمِ ، وحُصولُ العَدلِ والأمن ؛ فإنَّ المرءَ قد يتطلَّعُ إلى ما في يدِ غَيرِه ، فتدعوه القوَّةُ الشَّهوانيَّةُ إلى أخذِه قَهرًا .
٧– الاستِعفافُ عن المسألةِ ، وتجنُّبُ ذُلِّ السُّؤال .
٨– الرِّضا بقضاءِ اللهِ ، وعَدمُ السَّخَطِ ؛ وقد قيل : ” مَن رَضِي برِزقِ اللهِ لم يحزَنْ على ما في يدِ غَيرِه ” .
٩- ثباتُ العِلمِ في القلبِ ؛ فإنَّ ذَهابَه بالطَّمعِ في الدنيا ، وشَرَهِ النَّفسِ ، وتَطَلُّبِ الحاجاتِ إلى النَّاسِ .
١٠– سلامةُ الدِّينِ وصيانةُ الإيمان ؛ قال وَهبُ بنُ مُنبِّهٍ : ” ومَن تضَعضَعَ لغَنيٍّ ذهَب ثُلُثا دينِه ” .
١١- الطُّمأنينةُ ، وراحةُ البالِ وسلامةُ الصَّدرِ .
١٢- التَّوقِّي مِن الوُقوعِ في المُحرَّماتِ ؛ وهو أعظمها .
نسأل أن يصلح قلوبنا ، وأعمالنا للتي هي أقوم ؛ وألا يجعل الدنيا أكبر همنا ، ولا مبلغ علمنا ، ولا إلى النار مصيرنا ، وأن يجعل جنة الفردوس دارنا وقرارنا . اللهم آمين .