حفظ العلم


حسن بن محمد منصور مخزم الدغريري
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله ، والصلاة والسلام على رسول الله ؛ وعلى آله ، وصحبه ، وبعد :
أيها القراء الكرام : الحفظ ضده النسيان . ومعناه اصطلاحاً : القُدْرَةُ عَلَى تَـخْزِينِ الـمَعْلومَاتِ في الدِّماغِ ، وَتَأْدِيَتِهَا فِي أَيِّ وَقْتِ .
وينقسم الحفظ للمعلومات الشرعية ، وغيرها الى قسمين :
١ ) حفظها في السطور ، وبطون الكتب .
٢ ) حفظها في الصدور والعقول .
وأمَّا حفظها في السطور ، وبطون الكتب ؛ فهذا أمرٌ مشى عليها العلماء من قديم الزمان وحديثه ؛ اقتداء بكتابة كتاب الله العزيز ، وكتابة سنة نبينا محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه ؛ واللذين حفظا في صدور أمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم ، وحفظا في بطون الكتب المسطورة ؛ وصدق الله تعالى : ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) ( الحجر : ٩ ) وقال صلى الله عليه وسلم : ( نضَّرَ اللَّهُ امرأً سَمعَ منَّا حَديثًا فبلَّغَهُ ، فرُبَّ مُبلَّغٍ أَحفَظُ مِن سامِعٍ ) رواه ابن ماجه في سننه ؛ وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه برقم ١٩٠ .
فكم هي الأجور العظيمة لحفاظ آيات كتاب الله ؛ وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصدور ؛ وفي السطور المطبوعة ؛ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إذَا مَاتَ الإنْسَانُ انْقَطَعَ عنْه عَمَلُهُ إِلَّا مِن ثَلَاثَةٍ : إِلَّا مِن صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو له ) رواه مسلمٌ في صحيحه .
ومن أعظم الصدقات الجارية للإنسان بعد موته ؛ العناية بكتاب الله ، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ؛ جمعاً وطباعةً ، وغيرها من الكتب الشرعية ككتب التفسير المأثورة ، وكتب التوحيد والعقيدة الموثوقة ، وكتب الفقه الإسلامي المعتمدة ؛ وغيرها من المؤلفات في علوم العربية ؛ والأدب ، وكتب التاريخ والسير ، ونحوها من العلوم النافعة للأمة الإسلامية في أمور دينها ، ودنياها ؛ والتي لا يمكن الاستغناء عنها .
معشر القراء : إنَّ الحفظ للعلوم النافعة في الصدور والعقول من أعظم ما ينفع ويفيد ؛ ولا سيما في زمن الصغر ، وكما قيل : ” الحفظ في الصغر كالنقش في الحجر ” ولم يصل علماء الشريعة إلى ما وصلوا إليه غالباً إلا بحفظهم للقرآن الكريم ، وسنة رسولهم الأمين صلوات الله وسلامه عليه ؛ ولحفظهم لغيرهما من المتون العلمية الشرعية والعربية ؛ ولذا قال أهل العلم : ” من حفظ المتون حاز الفنون ” وقال بعضهم : ” فاحفظ فكل حافظٍ إمامُ ” .
ولايزال المسلم طالباً للعلم حتى لو بلغ من الكبر مبلغه ؛ فقد حفظ الصحابة القرآن ، وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وهم كبارٌ ، وهكذا مَنْ بعدهم إلى يومنا هذا ؛ ولكن الحفظ في حال الصغر أقوى ، وأثبت في نفس الحافظ .
ولحفظ العلوم الشرعية والعربية وغيرها أسباب منها :
١- توفيق الله للعبد بأن يفتح له أبواب العلم إخلاصاً ، وحفظاً ، وفهماً ؛ وعملاً ، ودعوةً إلى الدين القويم ؛ كيف وقد قال الله تعالى : ( وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) ( البقرة : ٢٨٢ ) وقد قال صلى الله عليه وسلم : ( من تعلَّمَ عِلمًا يبتغى به وجهَ اللهِ لا يتعلَّمُه إلا ليُصيبَ به عَرَضًا من الدنيا لم يجد عَرْفَ الجنةِ يومَ القيامةِ – يعني ريحَها ) رواه أبو داود في سننه ؛ وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم ١٠٥ .
٢– اختيار الأوقات المناسبة للحفظ كالحفظ بعد القيام من نوم ليلٍ أو نهار ؛ وفي أوقات الفراغ الذهني والبدني من أشغال الدنيا ومتاعها الزائل ، وقد قال الله تعالى : ( فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ ) ( الشرح ٦ – ٧ ) .
٣- أن يحرص الآباء والأمهات على أبنائهم وبناتهم بأن يحفظوهم كتاب ربهم ، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، وأن يلحقوهم بمجالس العلم ، وحلقات التحفيظ الموثوقة ، ليتمكنوا من الحفظ ، والفقه في دين الله ؛ ولينشأوا نشأةً صالحةً من صغرهم ، والهداية بيد الله وحده .
٤– التقلل من الانشغال بوسائل الإعلام المختلفة ؛ ومواقع التواصل الاجتماعي المتنوعة ؛ وخاصة الجوالات المطورة التي تبث من خلالها كلُّ ما هو نافعٌ ومفيدٌ وغير ذلك ، والتي صرفت أوقاتنا ، وعطِّلت بسببها مصالحنا الدينية والدنيوية إلا ممن شاء الله ، ونسأل أن يجعلها عوناً لنا على طاعته ، وأن يكفينا شرها ، ويعطينا خيرها .
٥– ومن أسباب الحفظ الذكاء الفطري الذي وهبه الله بعض الناس ؛ والذين آتاهم ملكةً في الحفظ بدون عناءٍ ولاتكلُّف ( ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ) ( الجمعة : ٤ ) وغيرها من الأسباب التي ذكرها أهل العلم ؛ ومنها ما قاله الإمام الشافعي رحمه الله :
أَخي لَن تَنالَ العِلمَ إِلّا بِسِتَّةٍ
سَأُنبيكَ عَن تَفصيلِها بِبَيانِ
ذَكاءٌ وَحِرصٌ وَاِجتِهادٌ وَبُلغَةٌ
وَصُحبَةُ أُستاذٍ وَطولُ زَمانِ
وأخيراً علينا أن ندعو الله تعالى ، وأن نتقرب إليه أن يوفقنا جميعاً لحفظ كتاب الله ، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، وحفظ كلَّ ما هو نافعٌ ومفيد ؛ اللهم علِّمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علَّمتنا ، وزدنا علماً ، وعملاً صالحاً يا رب العالمين ؛ وتقبل منا إنَّك أنت السميع ، وتب علينا إنَّك أنت التواب الرحيم . اللهم آمين .