موت العلماء


حسن بن محمد منصور مخزم الدغريري
بسم الله الرحمن الرحيم
لقد أثنى الله على العلم والعلماء ورفع من شأنهم في كتابه العزيز ؛ فقال جلَّ من قائلٍ حكيماً : ( يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) ( المجادلة : ١١ ) وقال تعالى : ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ) ( فاطر : ٢٢ ) وقال تعالى : ( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ) ( الزمر : ٩ ) وكذلك نبي الهدى صلوات الله وسلامه عليه أعلى من شأن أهل العلم الشرعي ؛ فقال صلى الله عليه وسلم : ( من سلك طريقًا يطلبُ فيه علمًا ، سلك اللهُ به طريقًا من طرقِ الجنةِ ، وإنَّ الملائكةَ لتضعُ أجنحتَها رضًا لطالبِ العِلمِ ، وإنَّ العالِمَ ليستغفرُ له من في السماواتِ ، ومن في الأرضِ ، والحيتانُ في جوفِ الماءِ ، وإنَّ فضلَ العالمِ على العابدِ كفضلِ القمرِ ليلةَ البدرِ على سائرِ الكواكبِ ، وإنَّ العلماءَ ورثةُ الأنبياءِ ، وإنَّ الأنبياءَ لم يُورِّثُوا دينارًا ، ولا درهمًا ، وإنَّما ورَّثوا العِلمَ ، فمن أخذَه أخذ بحظٍّ وافرٍ ) رواه أبو داود في سننه ؛ وصححه الألباني في صحيح أبي داود برقم ٣٦٤١ .
معشر القراء : لا شكَّ أنَّ موت العلماء ثلمةٌ لا يسدها إلا خلفٌ مثلهم ؛ وحق على الأمة الإسلامية أن تحزن لموتهم ؛ وتغتمَّ لفقدهم ؛ والحمدلله على ما قضى وكتب ؛ قال تعالى : ( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا ) ( الرغد : ٤١ ) قال ابن عباس رضي الله عنهما : ” خرابها بموت علمائها ، وفقهائها ، و أهل الخير منها ” قال الشاعر :
الأرض تحيا إذا ما عاش عالمها
متى يمت علمٌ فيها يمت طرف
كالأرض تحيا إذا ما الغيث حل بها
وإن أبى عاد في أكنافها التلف
معشر القراء : وبموت العلماء ينقص العلم ، ويكثر الجهل ؛ فيكون سبباً لضلال الناس ؛ وبعدهم عن الحق ؛ فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إنَّ اللَّهَ لا يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ العِبَادِ ، ولَكِنْ يَقْبِضُ العِلْمَ بقَبْضِ العُلَمَاءِ ، حتَّى إذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُوسًا جُهَّالًا ، فَسُئِلُوا ، فأفْتَوْا بغيرِ عِلْمٍ ، فَضَلُّوا وأَضَلُّوا ) رواه البخاري ومسلم .
وقد رأينا شيئاً مما ذكر في هذا الحديث في واقعنا المعاصر حيث فقدت الأمة الإسلامية عدداً من علمائها السلفيين الكبار ؛ الذين أفنوا أعمارهم في العلم ، والتعليم ، و الإفتاء ، والقضاء ، والتوجيه ، ولكن حسبنا هنا أن نذكر جملةً من حقوق أهل العلم علينا ، وهي على النحو التالي :
١– الدعاء لهم بالرحمة والمغفرة ، والثناء عليهم بما قدموه للإسلام والمسلمين من علمٍ نافع ؛ وسيرة حسنةً ، وآثارٍ طيبة يذكرها الأجيال من بعدهم ؛ قال الله تعالى : ( وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ) ( الحشر : ١٠ ) .
٢- احترام علماء الشريعة ، وتعظيمهم ؛ لتعظيم الله إياهم ؛ ومن المحزن أن نجد بعض الخلف ممن لا تتورع ألسنتهم ، ولا تنكف أقلامهم من القدح في علماء الشريعة ، وتحقيرهم ، وتسفيه آرائهم ، والنيل من أعراضهم ؛ والسعي في أذيتهم بكل طريق ؛ عياذا بالله ؛ كيف وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي : ( إنَّ اللَّهَ قالَ : مَن عادَى لي وَلِيًّا فقَدْ آذَنْتُهُ بالَحَرْبِ ) رواه البخاري في صحيحه ؛ قال عبدالله بن المبارك رحمه الله : ” من استخف بالعلماء ذهبت آخرته ، ومن استخف بالأمراء ذهبت دنياه ، ومن استخف بالإخوان ذهبت مروءته ” وقال الحافظ ابن عساكر رحمه الله : ” اعلم يا أخي وفقني الله وإياك لمرضاته ، وجعلني الله وإياك فيمن يخشاه ويتقيه حق تقاته ، اعلم أنَّ لحوم العلماء مسمومة ، وأنَّ عادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة ، وأنَّ من أطلق لسانه في العلماء بالسَّلب بلاه الله قبل موته بموت القلب ” .
٣– إبراز مآثرهم الحسنة وعلومهم النافعة ، من مؤلفاتٍ مطبوعةٍ ، وصوتياتٍ مسجلة ؛ وبثها للناس عبر كل وسيلةٍ وإعلام ؛ لإفادتهم منها ؛ وليجري أجرها على علمائنا في قبورهم ، ويوم حشرهم وحسابهم ؛ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إذَا مَاتَ الإنْسَانُ انْقَطَعَ عنْه عَمَلُهُ إِلَّا مِن ثَلَاثَةٍ : إِلَّا مِن صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ ؛ أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو له ) رواه مسلمٌ في صحيحه .
٤– استخراج مناهج هؤلاء العلماء ؛ وطريقتهم في التعليم ، أو التأليف ، أو الدعوة ، أو الإفتاء ، أو النصح الشخصي ، أو التعامل مع العامة ، أو مع المسؤولين في الدولة ، لتتأسى بهم الأجيال في الخير جيلاً بعد جيل ؛ وصدق الله إذ يقول : ( إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَىٰ وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ ۚ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ ) ( يس : ١٢ ) .
٥– ومن حقوق أهل العلم أن يقتدي بهم طلابهم ومحبوهم في السير على ما سار عليه علماؤهم من التحصيل العلمي ؛ والتأليف الشرعي ، والدعوة إلى الله على منهاج النبوة بالحكمة ، والموعظة الحسنة ، والجدال بالتي هي أحسن ؛ وقد قال تعالى : ( ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ) ( النحل : ١٢٥ ) .
وأخيراً من رحمة الله تبارك وتعالى بعباده أن حفظ لنا هذا الدين بوجود العلماء في هذه الأمة ، وطلابهم من بعدهم ؛ فلا يكاد يموت عالمٌ إلا ويخلفه عالمٌ آخر ؛ يجدد لهذه الأمة أمر دينها وهذا مصداقٌ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( يحمِلُ هذا العلمَ من كلِّ خلَفٍ عدولُه ؛ ينفونَ عنهُ تحريفَ الغالينَ ، وانتحالَ المبطلينَ ، وتأويلَ الجاهلينَ ) رواه أبو نعيم في معرفة الصحابة ؛ وصححه الإمام أحمد في تاريخ دمشق برقم 7/39 نسأل الله لعلمائنا السابقين واللاحقين الرحمة والمغفرة ؛ والهداية والتوفيق لما يحبه الله ويرضاه ؛ وأن يجمعنا بهم وبالصالحين من عباده في جنات النعيم ؛ وأن يقينا واياهم وسائر المسلمين عذاب القبر والجحيم . اللهم آمين .