آداب حملة القرآن


حسن بن محمد منصور مخزم الدغريري
بسم الله الرحمن الرحيم
معشر القراء : لقد رفع الله من شأن القرآن ؛ ومن شأن حملته في الكتاب والسنة ؛ قال الله تعالى : ( مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللَّهِ وَلَٰكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ ) ( آل عمران : ٧٩ ) وقال تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ ) ( فاطر : ٢٩ ) وقال صلى الله عليه وسلم : ( خَيْرُكُمْ مَن تَعَلَّمَ القُرْآنَ وعَلَّمَهُ ) رواه البخاري في صحيحه ؛ وقال صلى الله عليه وسلم : ( إنَّ للَّهِ أَهْلينَ منَ النَّاسِ قالوا : يا رسولَ اللَّهِ ، من هُم ؟ قالَ : هم أَهْلُ القرآنِ ، أَهْلُ اللَّهِ وخاصَّتُهُ ) رواه ابن ماجه في سننه ؛ وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه برقم ١٧٩ وقال صلى الله عليه وسلم : ( يُقالُ لصاحِبِ القرآنِ اقرأ ، وارتَقِ ، ورتِّل ؛ كما كنتَ ترتِّلُ في الدُّنيا ؛ فإنَّ منزلَكَ عندَ آخرِ آيةٍ تقرؤُها ) رواه أبو داود في سننه ؛ وصححه الألباني في صحيح أبي داود برقم ١٤٦٤ .
ومن هذا المنطلق يسرني أن أبين لكم الآداب الحميدة التي يجب أن يتحلى بها حامل القرآن ؛ وهي على النحو التالي :
١– من أعظم آداب حملة القرآن : إخلاص النية لله تعالى في تلاوة القرآن الكريم وحفظه ؛ قال الله تعالى : ( وَمَآ أُمِرُوٓا۟ إِلَّا لِيَعْبُدُوا۟ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ حُنَفَآءَ وَيُقِيمُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤْتُوا۟ ٱلزَّكَوٰةَ ۚ وَذَٰلِكَ دِينُ ٱلْقَيِّمَةِ ) ( البينة : ٥ ) وقال صلى الله عليه وسلم : ( من تعلَّم علمًا مما يبتغى به وجه اللهِ تعالى ، لا يتعلَّمُه إلا ليُصيبَ به عرضًا من الدنيا لم يجِدْ عَرْفَ الجنةِ يومَ القيامةِ . يعني ريحَها ) رواه أبو داود في سننه ؛ وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم ١٠٥ .
٢– من آداب حملة القرآن : تعظيم القرآن في نفوسنا ؛ وتعظيم شعائره في قلوبنا ؛ لأنَّه كلام الله الذي ( لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ۖ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ) ( فصلت : ٤٢ ) وقال تعالى : ( ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ ٱللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى ٱلْقُلُوب ) ( الحج : ٣٢ ) .
٣- ومن آداب حملة القرآن : الإكثار من دعاء الله تبارك وتعالى ، والاستعانة به ؛ والاعتماد عليه ؛ أن يعينهم على حفظ كتاب الله ، ومراجعته ؛ وتدبر آياته ، والعمل به ؛ قال الله تعالى : ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) ( الفاتحة : ٤ ) وقال تعالى : ( وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ ۚ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ) ( هود : ٨٨ ) وقال تعالى : ( وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ) ( غافر : ٦٠ ) وقال صلى الله عليه وسلم : ( إذا سأَلتَ فاسألِ اللَّهَ ، وإذا استعَنتَ فاستَعِن باللَّهِ ) رواه الترمذي في سننه ؛ وصححه الألباني في صحيح الترمذي برقم ٢٥١٦ .
٤- من آداب حملة القرآن : أن يختار حامل القرآن معلماً متقناً ناصحاً ؛ سليماً في معتقده ومنهجه ؛ قال مكــي بــن أبــي طالــب رحمه الله : ” علــى طالــب العلــم أن يتخيــر لقراءتــه ، ونقلــه ، وضبطــه أهــل الديانــة والصيانـة ، والفهـم ” وأخـرج مسـلم فـي مقدمتـه : ” إنَّ هـذا العلـم ديـن ، فانظـروا عمـن تأخـذون دينكـم ” .
٥- من آداب حملة القرآن : أن يتواضع لمعلميه ، ومشايخه ؛ وأن يجلهم ؛ ويقدرهم غاية الإجلال والتقدير ؛ لأنَّ الله رفع من مكانة العلماء ؛ فكيف لا يتواضع لمعلميه ، ويقدرهم ، ويجلهم حقَّ التقدير والإجلال ؛ قال الله تعالى : ( يَرْفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ مِنكُمْ وَٱلَّذِينَ أُوتُوا۟ ٱلْعِلْمَ دَرَجَـٰتٍۢ ۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌۭ ) ( المجادلة : ١١ ) وقال الشافعي رحمه الله : ” كنت أتصفح الورقة بين يدي مالك تصفحاً رفيقاً هيبة له ؛ لئلا يسمع وقعها ” وقال الربيع : ما اجترأت أن أشرب الماء والشافعي ينظر إلي هيبةً له ” .
٦– من آداب حملة القرآن : أن يعامل الناس بالأخلاق الحسنة ؛ وبالصفات العالية النبيلة ؛ كما يحب أن يعاملوه بها ؛ فلا يتكبر على الناس ؛ ولا يحتقرهم ؛ ولا بغيرها من الأخلاق الرذيلة ؛ والصفات النابية القبيحة ؛ كيف وقد قال الله في كتابه : ( سَأَصْرِفُ عَنْ ءَايَـٰتِىَ ٱلَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِى ٱلْأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ ) ( الأعراف : 146) وقال صلى الله عليه وسلم : ( إنَّ مِن أحبِّكم إليَّ ، وأقربِكُم منِّي مجلسًا يومَ القيامةِ أحاسنَكُم أخلاقًا ، وإنَّ مِن أبغضِكُم إليَّ ، وأبعدِكُم منِّي يومَ القيامةِ الثَّرثارونَ ، والمتشدِّقونَ ، والمتفَيهِقونَ ، قالوا : يا رسولَ اللَّهِ : قد علِمنا الثَّرثارينَ ، والمتشدِّقينَ ؛ فما المتفَيهقونَ ؟ قالَ : المتَكَبِّرونَ ) رواه الترمذي في سننه ؛ وصححه الألباني في صحيح الترمذي برقم ٢٠١٨ قال الآجري رحمـه الله عن حامل القرآن : ” فينبغـي لـه أن يجعـل القـرآن ربيعـاً لقلبـه ، يعمـر بـه مـا خـرب مـن قلبـه ، ويتـأدب بـآداب القـرآن ، ويتخلـق بأخلاقٍ شريفةٍ ؛ يَبيْنُ بهـا عـن سـائر النـاس ممـن لا يقـرأ القـرآن ” .
٧– من آداب حملة القرآن : أن يتعامل مع زملائه في حلقة التعليم معاملة طيبة ؛ فلا يتقدم عليهم في القراءة قبل مجيء نوبته إلا بإذنهم ؛ وأن يشجع أقرانه على الحفظ ، ويتعاون معهم في تسميع المحفوظ ، والمراجعة ، وتصحيح التلاوة ؛ لقول الله تعالى : ( وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) ( المائدة : ٢ ) ويقول سبحانه وتعالى : ( وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ) ( سورة العصر ) .
٨– من آداب حملة القرآن : أن يحب المساجد ؛ ويعظمها لتعظيم الله إياها ؛ وأن يتأدب بالآداب الواجبة والمستحبة فيها : ( ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَـٰٓئِرَ ٱللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى ٱلْقُلُوبِ ) ( الحج : 32) ومن الآداب فيها : أن يتزين ويتجمل لها ، ويتطيب عند إرادة دخولها للصلاة فيها ؛ والتحلق في حلقاتها : ( يَـٰبَنِىٓ ءَادَمَ خُذُوا۟ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍۢ ) ( الأعراف : ٣١ ) ومنها تنزيه بيوت الله عن الأذى ؛ وتجنـب الاشتغال فيها بأمـور الدنيـا ؛ وكثـرة الـكلام فيها فيمـا لا يعنيـه ؛ والعبـث فيها بمـا لا ينفعـه كأجهـزة الاتصـال وغيرهـا .
٩– ومن آداب حملة القرآن : أن يستشعروا فضــل مجالس تعلــم القــرآن ، وأنَّ الله يباهــي بحملــة القــرآن ملائكتــه ؛ قال صلى الله عليه وسلم : ( ما اجْتَمع قَوْمٌ في بَيْتٍ مِن بُيُوتِ اللهِ ، يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ ، وَيَتَدَارَسُونَهُ بيْنَهُمْ ؛ إِلَّا نَزَلَتْ عليهمِ السَّكِينَةُ ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ ، وَحَفَّتْهُمُ المَلَائِكَةُ ؛ وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَن عِنْدَهُ ) رواه مسلمٌ في صحيحه .
١٠– وأخير من آداب حملة القرآن : القيــام بالفرائــض ، وتزكيــة النفــس بالنوافــل ، فلا بــد أن يكـون للقـرآن علـى صاحبـه أثـرٌ فـي عبادتـه فرضاً ونفلاً ؛ قـال ابـن مسـعود رضـي الله عنـه : ” ينبغـي لحامـل القـرآن أن يعـرف بليلـه إذا النـاس نائمـون ، وبنهـاره إذا النـاس مفطـرون ، وبورعـه إذا النـاس يخلطـون ، وبتواضعـه إذا النـاس يختالـون ، وبحزنـه إذا النـاس يفرحـون ، وببكائــه إذا النــاس يضحكــون ، وبصمتــه إذا النــاس يخوضــون ” وقال الآجــري رحمــه الله تعالــى : ” أهــل القــرآن ينبغــي أن تكــون أخلاقهــم مُبايِنَةً لأخـلاق مـن سـواهم ممـن لـم يَعلم كعلمهـم ؛ فـإذا نزلـت بهــم الشــدائد لجــؤوا إلــى الله فيهــا ، ولــم يلجــؤوا فيهــا إلـى مخلـوقٍ ، وكان الله أسـبق إلـى قلوبهـم ، وقـد تأدبـوا بــأدب القــرآن والســنة ؛ فهــم أعــلامٌ يُقْتدي بفعالهــم ، لأنهــم خاصــة الله وأهلــه ، أولئــك حــزب الله ألا إن حــزب الله هـم المفلحـون ” وقـال الفضيـل بـن عيـاض رحمـه الله : ” حامـل القـرآن حامـل رايـة الإسـلام ؛ لا ينبغـي لـه أن يلهـو مـع مـن يلهـو ، ولا يسـهو مـع مـن يسـهو ، ولا يلغـو مع من يلغو ” وقال ابـن مسـعود رضـي الله عنـه : ” والـذي نفسـي بيـده إن حـق تلاوتـه أن يحـل حلاله ، ويحـرم حرامـه ، ويقـرأه كمـا أنزلـه الله ، ولا يحـرف الكلـم عـن مواضعـه ، ولا يتـأول منـه شـيئاً علـى غيـر تأويلـه ” نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهل القرآن الذين أحلوا حلاله ، وحرموا حرامه ؛ وعملوا بمحكمه ؛ وآمنوا بمتشابهه ، فكان حجةً لنا لا علينا ؛ وسائقاً لنا إلى رضوان الله وجنته ؛ وأن يقينا وإياكم بالقرآن عذاب القبر والجحيم . اللهم آمين .