حوارات صحفيه

حين يتكلّم الجرح شعراً..حوار مع الشاعر العراقي خالد الباشق

د.آمال بو حرب

د.آمال بو حرب

في عالمٍ يعلو فيه صخب العابر وتبهت فيه الندوب خلف ركام التفاصيل اليومية، يظلّ الشعر هو المساحة الوحيدة التي لا تزال تمنح الألم شكلاً يُرى، وصوتًا يُسمع.

وفي هذا السياق، يبرز اسم الشاعر والإعلامي العراقي خالد عبد الرحمن حسين محمود الجبوري، المعروف أدبيًا بـ”خالد الباشق”، كأحد أبرز الأصوات الشعرية التي تتقاطع فيها التجربة الشخصية مع نبض الوطن، وتلتقي فيها اللغة بالتاريخ، والحسّ الفردي بالوعي الجمعي.

عُرف بكتاباته المتنوّعة بين الشعر والرواية والنقد، وبأسلوبه الذي يزاوج بين أصالة التعبير وجرأة التجديد. لا يكتب من برجٍ عاجٍ، بل من قلب التجربة العراقية ووجعها المتراكم، مؤمنًا بأنّ “القصيدة تولد من رحم حب الوطن”، وأنّ الكلمة قادرة أن تكون بيتًا ومأوى وسلاحًا للمقاومة.

هذا الحوار الذي تشرفت بإجرائه مع الشاعر خالد الباشق، هو محاولة للإصغاء إلى صوتٍ اختار ألا يتنازل عن دوره، وأن يكتب لا ليصفّ الكلمات، بل ليضيء بها ما أمكن من عتمة المرحلة؛ لنقترب سويًا من تلك المسافة الحرجة التي تتحوّل فيها القصيدة من جمال إلى موقف، ومن ذاتيّة البوح إلى مسؤوليّة التوثيق والمقاومة الرمزية.

في ضوء الأسئلة التالية، نكتشف بعض معالم هذه التجربة الشعرية:

1. في نصوصك، هناك حضورٌ للجرح الجمعي والذاكرة العراقية. كيف تتعامل مع فكرة “الكتابة من الندبة”؟ وهل ترى أن الشعر قادرٌ على تضميد جراح الوطن أم يكتفي بتوثيقها؟

خالد الباشق: بدءاً، أقدّم لكِ دكتورة آمال كل التقدير على هذا الحوار الذي يضيء مناطق مهمّة من تجربة الشاعر.

الشعر في العراق ليس ترفاً، بل ضرورة وجودية. الكتابة من الندبة ليست خيارًا، بل قدرٌ نحياه. كلّ تفصيل عراقيّ نحياه أو نفقده، يتحوّل إلى قصيدة. الشعر لا يكتفي بالتوثيق، بل يُحاول تضميد الجرح بما يستطيع، وبما يتاح من صدق.

2. كيف ترى العلاقة بين اللغة والهوية؟ وهل يمكن للكلمة أن تحمي الذات من الذوبان؟

ج: اللغة هي بيت الشاعر، وهويته، وسلاحه. لا أستطيع أن أتخيّل قصيدة تُكتب بلغة عادية. الشعر يطلب لغة متفرّدة، تليق بالوجع، وتُعيد للهوية حضورها، خاصةً في زمن الاغتراب والضياع.

3. هل ما زالت القصيدة قادرة على مساءلة الوجود؟

ج: القصيدة الحقيقية لا تنحني أمام الخراب، بل تسأله وتفكّكه. الشعر العراقي تاريخيًا لم يكن يومًا محايدًا. إنه شكل من أشكال المقاومة الفكرية. في القصيدة، يمكننا أن نصرخ بصوتٍ خافت، وأن نقول ما لا تقوله البيانات ولا الخطب.

4. هل مرّت بك لحظة شعرت أن القصيدة خانتك؟

ج: لم تخذلني، لكنها غابت أحيانًا. هذه الغيابات ليست موتًا، بل صمتٌ ضروري لإعادة التشكيل. القصيدة ككائن حيّ، تنام، تصمت، تتنفس… ثم تولد من جديد.

5. إلى أي مدى ترى أن الشاعر مسؤول عن الوعي الجمعي؟

ج: الشاعر ليس معزولاً. كلّ كلمة يكتبها تُحدث أثرًا. القصيدة لا تكون حقيقية إن لم تكن متورطة في سؤال الجماعة. وما زلنا نرى الشِعر حاضرًا في كل خطاب، في كل نداء، لأنه يمتلك تلك الطاقة الرمزية التي لا تنفد.

6. في ظل الأزمات المتكررة، كيف تتعامل مع “اللاجدوى” في الكتابة؟

ج: لا أؤمن باللاجدوى. حتى حين لا يغيّر الشعر الواقع، فهو يُغيّر وعينا به. المتلقي اليوم، وأكثر من أي وقت، يقرأ، ويحلّل، ويقارن. ما يُكتب اليوم يُصغي له جمهور ذكيّ، وهذا وحده كافٍ لقتل الشعور بالعبث.

7. هل ترى أن الشعر يجب أن يكون صادماً أم معزّياً؟

ج: لا أضع الشعر في قوالب جاهزة. إن صدم فليكن، وإن عزّى فليكن. المهم أن يفتح نافذة للوعي، وأن لا يكون محايدًا. الشعر لا يُربت فقط على الكتف، بل يُنبه، يُزلزل أحيانًا.

8. كيف أثّرت قراءاتك وأسئلتك الوجودية على شعرك؟ وهل تتكرر مفاهيم نفسية في نصوصك؟

ج: أكتب اليوم أكثر عن الذاكرة، عن الغياب، عن خيانة اللحظة، عن فلسطين وغزة تحديدًا، وأقول:

“من أيِّ فجٍّ نحو غزّةَ ندخلُ

والبابُ من جهةِ العروبةِ مُقفَلُ”

هذا البيت ليس تعبيرًا شعريًا فحسب، بل موقف، تأريخ، ومرآة لحقيقة مؤلمة. أنا أؤمن أن الشاعر قارئ قبل أن يكون كاتبًا، والقراءة هي ما يصقل تلك الأسئلة الكبرى التي نحملها في قصائدنا.

9. بعد قرن، لو قرأك أحدهم، ما الذي تتمنى أن يبقى منه؟

ج: أن يشعر أنني كنت صادقًا. أن كلماتي لم تكن زينة لغوية، بل شهادة على زمن، وعلى روح حاولت أن تقاوم بالكلمة.

10. وأنت إعلامي أيضًا، كيف ترى دور الإعلام الثقافي؟

ج: الإعلام الثقافي ليس مكمّلًا بل أساسي. التحديات كبيرة، لكني أؤمن أن الصحافة الثقافية حين تكون أمينة، تُمثّل جبهة مقاومة فكرية. تطويرها يبدأ من الصدق، ومن تبنّي نبض الشارع لا مجرد الأسماء الرنانة.

 

كلمة أخيرة: خالد الباشق… حين تُصبح القصيدة بيتًا للمقاومة

ليس كلّ من يكتب شاعرًا، وليس كلّ من ينشر يحمل مشروعًا. لكن خالد الباشق، بصوته المتفرّد، يقدّم تجربة تستحقّ الإنصات.

في شعره، نجد العراق لا بوصفه جغرافيا، بل كندبة مفتوحة، وكقضية لا تسقط بالتقادم.

هو شاعر يكتب من الداخل، لا من الحاشية؛ يقاوم بالقصيدة، ويقيم المعنى حيث تفقد اللغة معناها.

قصيدته ليست نصًا فحسب، بل موقف… وذاكرة، لا تزال تنزف وتضيء.

كلّ الشكر والتقدير للشاعر خالد الباشق على هذا اللقاء الذي جمع بين الفكر والبوح، وعلى صدقه الذي عبر النص ليصل إلى وجدان القارئ.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى