فايل المطاعني
في لحظةٍ ما، يتغيّر طعم الحياة… يصبح الهواء أثقل، والألوان باهتة، وتبدو الأيام بلا معنى. تلك اللحظة التي تسمع فيها كلمة “مات”… ليست مجرد كلمة، بل زلزالٌ يهدم داخلك، ويغيّر خارطة روحك إلى الأبد.
كانت المرة الأولى التي أسمع فيها كلمة “الموت” حقًا، يوم مات والدي..يومها لم تُظلم الدنيا فقط، بل أُطفئ النور في قلبي…كنت أراه الجبل الذي لا يهتز، والسند الذي لا ينكسر…كنت أظنه لا يموت، حتى لو امتلأ وجهه بالتجاعيد وابيضّ شعره وخفّت ذاكرته.
كنت أتمنى أن تعود يده التي كانت تضربني،ليس لأني أحب الألم، بل لأني كنت أجد في قسوته حنانًا، وفي صوته حياة.
– أبي، لماذا رحلت؟
أنا لم أرتوِ بعد من حنانك،
لم أشبع من دعاباتك،ولا من رائحة ثوبك حين كنت تحتضنني…رحيلك لم يكن فقط خسارة،كان بداية سلسلة من الخسائر التي لم تتوقّف…منذ ذلك اليوم، كأن الموت استوطن بيتنا.
لم يغادر فناءه، بل جعل من الدار محطة عبورٍ للحزانى..أخذ أمي بعدها، ثم أخواتي… واحدةً تلو الأخرى، كأن شجرة عائلتنا بدأت تتساقط أوراقها بصمتٍ مريب…واليوم… ترحل فائزة، ابنة أخي…
ويا لها من ضربة قاصمة!
فائزة لم تكن مجرد ابنة أخي،كانت قريبة من القلب، أختي الصغيرة، رفيقة طفولتي، كبرنا معًا، تشاركنا الضحكات واللحظات، والسرّ والحلم.
رأيتها تكبر، تدرس، تتفوق، وتصير مهندسة يزهو بها كل من عرفها…كنت أفخر بها كما يفخر الأب بابنته،
واليوم، صارت صورة… وذكرى… ودعاء لا ينقطع.
يا فائزة، كيف تنطفئين فجأة؟
أين ذهبتِ؟ ومن سيردّ على رسائلي بعد الآن؟
كيف ترحلين والضحكة لا تزال معلقة في زوايا البيت؟
وكيف تتركينني وأنتِ التي كنتِ تملئين حياتي بألوان الطمأنينة؟
ورقة جديدة تسقط من شجرة العائلة…وما أقسى أن ترى أغصانك عارية، تُصارع الريح بلا ظلّ ولا دفء.
الخاتمة:
نعم، الموت حق… لكنه يوجع.
يفتح في القلب فجوة لا تردمها الأيام،
ويتركنا نحمل ذكريات أحبّتنا كأنها أثقال من الشوق.
لكنني، رغم الحزن، لن أنساكم…
لن أنسى أبي، أمي، أخواتي، وفائزة…
سأظل أكتبكم في دفاتري،وأحكي عنكم لأطفالي،
وأدعوا لكم في صلواتي…لأن من أحببناهم بصدق، لا يموتون… بل يعيشون فينا، ما دام القلب ينبض، وما دامت الذكرى حية لا تموت
