السرير رقم 12


شريفة راشد القطيطي
لم تكن الخطوات قادرة على حملي، ولم يكن الممر مرغوب به، والقلب في زاوية منسية يأبى أن يترجل، ظلّ يتمتم لعلها بخير، لعلها بخير، الأنفاس تأخذ قسطاً من الراحة وتذهب بعيداً وتأتي إليّ مسرعة وترتطم بصدري، لم تكن قدمايَ أحسن حالاً، كانت على موعد في صحراء تموز حافيةً، ولم تكمل السير.
بعد جهد ومتابعة للوحات الممرات وأسماء الأقسام، (الباطنية نساء) تلفت نظري، وتزيد دقات قلبي وتتجمد أطرافي، وأتقدم ببطءٍ شديد، وأنفاسي تسبقني للسؤال، أمي وغاليتي في أيّ غرفة، وأنا الغريبة القريبة أتيت من القرن الماضي، ولم أُدرك الحداثة، تجيب الممرضة: الغرفة المقابلة والسرير رقم 12.
أتقدم وأفتح ستاراً مُراً، ورائحة المعقمات، وبعض الممرضات يتوافدن لتغيير المغذي والضمادات، وأخذ عينة لقياس السكر، وما زلت أفكر، أهذه أمي؟
لم أتركها بين أيديكم لتستبدلوها بجسد هامد وأنفاس بطيئة، لم أثق بكم قبل ذلك لتجبروا خاطري بوجه مشرق، لم أتعمد الوصول إلى هنا لولا وجهها ولمسة يدها، لن أقبل بوضعٍ مزرٍ وأنا أتيت على أمل الشفاء .
كنت قد زرتها قبل اليوم في قسم العناية بالقلب، وكانت مبتهجة وتحاكي الغيم وتقول: سأعود بأقرب وقت، وسأكمل استقبالي لك ولأولادك، وسنعود للضحك، ونستعد لاستقبال الشهر الفضيل، هنا القلب أسقط أسلحته الحمقاء، وتركت المراكب بلا رياح تداعبها للعبور، وتوتر السير وتعرقل، واستقر العبث في السرير رقم 12.
الزيارة الثانية التي أحسستُ فيها بثقل الطريق، وبعض حريق في قلبي يهتف لي بوجع وألم، ومغاير تماماً للزيارة الأولى، لم أشعر بنبضها يستقبلني، ولم تفرح ولم تفتح عينيها، ولم تقل لي اشتقتُ إليكِ، أنا التي اشتقت لحكاية جميلة اسمها أمي، ولأنفاس فرِحة وبهجة لقاء، وقد تركتُ كل نبضي ليسجد بوجع الآهات التي أشعلها دمي، وتوضأ بها عمري الذي تمثل لي في دقائق وأنا أُقبّل يدها التي كانت باردة كالثلج، ومتورمة وملونة باللون الأحمر والبنفسجي، والأطراف سوداء كلون الفحم.
السرير رقم 12 لم يكن أهلاً للثقة، لقد سرق عافية أمي وسرق فرحتنا بشفائها، لم يكن أميناً كفاية، وعبث بجسدها الذي أعاده للصفر، وتوكل وأثقل وأعيا وأنهك قواها، إنه لصّ الليالي المخملية، يسرق بحجة التعديل ويبدأ التضليل، وفي النهاية لا يوجد حلّ، سنستأصل الأطراف المتضرة، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
أمي التي أنهك جسدها المرض، اعتادت أن تقرأ المعوذات على جبهة أحفادٍ أصابتهم الحمّى التي أخذت مزاجهم الجميل، كانت تحكي لهم حكايات الشجاعة وبطولات الأجداد، كانت لا تحب الضجيج والصخب، ولا تحبّذ العبث بالوقت، الآن يُحيطها ضجيج الأجهزة وعبث الأدوية ومتاهات الخُطى الناعمة حول سريرها المُرقّم بالسرير رقم 12، يا لكَ من بائسٍ يخزّن مراحل التعب، ويثقل كاهل أمي، ويزرع خيبات المرض، ويكمل التوغل للموت ويتركها جثة هامدة. رحمة الله عليكِ يا نبضي وأنفاسي ووجدي، وجعل قبركِ روضة من رياض الجنة.
” إنا لله وإنا إليه راجعون”