المقصف


موسي رامس
كان منظر البحر والشاطئ المطلان على المدرسة يوحي بشيء من الحرية. ينظر عامر من النافذة ويتمنى أن يكون هناك، يركض ويلعب ويشعر برذاذ البحر المالح في وجهه، لم يكن يعلم أنه آخر منظر سيراه من نافذة ذالك الفصل. يتمنى أن تنتهي الحصة لكي يأكل شيآ، فلم لم تتسن له الفرصة اليوم لكي يكمل طعام إفطاره فلقد كان متأخرا.
وبينما كانت معدة عامر تصرخ وتطالب بالطعام، دق باب الفصل طالب أكبر سناً واستأذن لكي يسمح لعامر بالذهاب معه للمقصف، فلقد كان عامر أحد الطلاب المشاركين في إدارته.
تقدم عامر الطلاب الأربعة مسرعاً للمقصف، ووقف عند الباب وهو يردد ويدندن كلمات تدل على شدة جوعة.
اولج الطالب الأكبر سناً المفتاح في الباب وحاول فتحه، للحظة الباب لم يفتح وكأن شيء يعوقه.
عندما حاول فتح الباب وجده لم يكن مقفلاً وادار وجهه لأحد زملائه بنظرة غضب ثم رد الاخر.
” اقسم أنى اقفلته بالأمس …”
لم ينتظر عامر أن ينتهي جدالهم ودخل مسرعاً وهو ينظر لهم إلى أن ارتطم رأسه بشيء معلق في السقف.
قال في نفسه.
” ما هذا يا ترى، لا أذكر وجود عمود في وسط المقصف ”
الآخرون في الخارج ينظرون في ذهول، واحد منهم ركض مسرعاً أما الأثنان الآخران لم يتحركا قيد أنملة.
شاهد عامر وجوهم الفارغة ثم نظر إلى أعلى ليجد تلك الجثة المتعلقة تتدلى أمامه.
سقط أرضاً، ثم تراجع إلى الوراء وكتم صرخته وهو ينظر اليه ويقول:
” هذا حارس المدرسة، العم سليمان …”
لم يعد بعدها عامر للمدرسة ابداً.
كبحر أسود، امواجه الحزن والكآبة، هكذا كان منزل الحارس سليمان من الداخل.
نساء مجتمعات لأداء واجب العزاء، وجوه صامته وأخرى شاحبة.
الموت ليس غريب عنهم، ولكن الاغرب الموت بهذه الطريقة.
دخلت إمراه في عقدها الثالث، تحمل بيدها اليمنى طفل رضيعاً لم يتجاوز العامان، وبيدها اليسرى تمسك شابة عشرينية وقد أرهقها البكاء.
دخلتا غرفة من غرف المنزل، حيث كانت النسوة بين دخول وخروج، فلقد كانت أرملة الحارس تبكي زوجها الراحل هناك.
سمعت النسوة في الخارج حديثاً وصراخاً حاد من الارملة وهي تقول:
“انت السبب، لقد مات بسببك أنت، أخرجي من هنا، لم يعد لك مكان بيننا، عودي من حيث أتيت “
خرجت الفتاة من غرفة أمها منهارة تبكي بحرقة، ثم دخل في غرفه أخرى من غرف البيت.
كان كل شي مثلما تركته تماماً، وكأنّها لم تغادرها قبل سنتين، تأملت خزانته ملابسها وفتحتها، وكان صوت الصرير نفسه لم يتغير، ملابسها القديمة لم تمس.
على طاولة الزينه الخاصة كانت قد وضعت أدواتها ولم تمس أيضا، وهي عبارة عن بودرة وزجاجة عطر رخيصه الثمن، ومشط لكي تسرح شعرها.
لم يكن يسمح لها وضع مساحيق التجميل، أو لكي أكون أكثر دقة لم تملك مالاً لكي تتزين.
جلست على الكرسي وشاهدت نفسها في نصف المرآه المنكسره، كانت الدموع قد رسمت خريطة في وجهها، وصار أكثر نحولاً.
قال لها انعكاسها في المرآة:
– هل كان يستحق كل هذا؟
– أنه من حقي، من حقي أن أعيش مثل أي فتاة في مثل سني، من حقي أعيش مثل أي فتاة في عائلتي.
– ولكنه لم يقصر معك بأي شي، فلقد كنت المدللة معه.
– أنا لم أكن المدللة، لقد كنت الوحيده، فبعد زواج اختي، ومرض أمي، أنا أصبحت خادمة البيت الجديدة، أغسل واطبخ واكنس لسبعة رجال. إنكسر ظهري وأنا أغسل الملابس بيدي، يرفض أن يشتري غساله جديدة بحجة إنها تتلف الملابس، يرفض أن يجلب يداً عامله في المنزل بحجة وجود إخوتي وخوفه منهم. يرفض أن يشتري طعاماً من الخارج بحجة أنه لا يثق في أكل المطاعم.
حتى التلفاز، العالم تقدم وفي كل منزل يوجد دش، أما نحن نعيش في العصر الحجري، ما زلنا على الهوائي، لا نشاهدة سواء القناة المحلية وزنده الإيرانية.
– ولكن الذي فلعته قد كسر ظهرة.
– وهل تنتظرين مني أن أصمت حتى ينكسر ظهري مثل ما إنكسر ظهر أمي؟ أفنت حياتها في خدمته ولم ترفض له أي طلب، حتى ذهبها باعته من أجله، وعندما إنكسر ظهرها وكان لابد من سفرها للهند للعلاج رفض، بحجة أنه لا يثق في علاجهم، فلولا تدخل خوالي وإرسالها للخارج لكانت الآن مقيدة بالسرير، وحتى الآن ما زالت خاضعة له، حتى الآن ما زالت تكن له الولاء حتى من بعد موته.
– وإن يكن، وجودك في منزل غريب، تعيشين مع ناس غرب لا يجوز، فلقد تحمل والدك الكثير من الكلام عنك، يقولون إنك هربتي، وأنك الحقتي العار به وبالعائله.
– إنه منزل أختي، وأنهم من أقاربنا.
– أختك تعيش في منزل حمولتها، لم يكن لها منزل خاص، اضطرّوا أن يتعايشوا مع ضيفة غير مرغوبه، ضيفه أرغموا في استقبالها. لقد قيدتي حريه رجالهم، لم يكن يستطيعون أن يتحركوا بحريه في منزلهم، حتى زوج أختك لم يكن يأخذ راحته مع أختك.
– لم أكن أعيش بالمجان، فلقد كنت أعمل في مقبال السكن والأكل، حتى عندما غادرت عاملتهم، لم يضطروا أن يحظروا واحدة جديدة، كنت أساعد في أعمال المنزل.
– كل هذا لا يهم الآن، لقد كنتي وما زلتي غريبة في منزل غريب، وعندما أرادوا أن يخرجوك بالقوة هددتي بالفضيحة، وهذا ما كسر ظهر ابيك، ابنته تخرج من بيته ولا تريد العودة. الناس لا تعرف السبب، وكل شخص سوف يضع سبباً من رآسه.
– لا، أنه لم يخف من فضيحة خروجي من المنزل، إنما كان خائفاً من أن يعرف الناس حقيقة بخله، رغم أمواله الكثيرة، الأراضي والمزرعة الكبيرة، الناس تتكلم في ظهره قبل أن يموت، حتى في عائلتنا يعيرونا ببخل أبينا، ويضحكون علينا، حتى أبناء عمومتنا يستهزؤن علينا وهوه لم يحرك ساكناً.
لقد اورث اخوتي هذا البخل والحرص الشديد على المال.
– أفهم من كلامك إنك لم تندمي على خروجك من المنزل؟
– لا، حتى وإن عاد للحياه، سوف أفلعها مرة بعد مرة.
حاله حال كل ولد شقي في المدرسة، كان عامر كثير الغياب، كثير الهرب والمشاكل في المدرسة، وقبل تلك الليله المشؤومة كان قد تهرب من الحصة الأخيرة هو وبعض أصحابه، وبينما كان يتسلق سور المدرسة، شاهدة العم سليمان وجاء من فورة لكي يوقفه.
– ماذا تفعل هناك، أرجع إلى فصلك الآن وسوف أتغاضى عن محاولة هروبك، أرجع وإلا أخبرت المدير عنك.
– لن أعود، لقد سئمت الحصص، أفعل ماشئت إنني لا أهتم.
– إنني أعرفك، أنت عامر سالم، سوف أخبر أباك لكي يؤدبك على طول لسانك.
– أدب ابنتك قبل أن تنادي بتأديبي، أنت لم تستطع أن ترجعها للمنزل، كيف سوف ترجعنا نحن.
ثم ضحك هو وأصحابه وقفزوا من سور المدرسة.
كان وقع الكلمات على العم سليمان، مثل ألف سكين تقطع أوصاله، وقف متسمراً، يقول في نفسه حتى من الأطفال الصغار، إلى متى سوف أتحمل هذا الكلام.
عندما أتى وقت المناوبة المسائية قال لصاحبة : أنه لا يشعر بالتعب، ويريد أن يكمل اليوم كامل، فغدا لن يستطيع أن يأتي للمدرسة في الصباح.
في المساء، كان قد أنهى جولته التفقدية المسائية، ثم أخذ كرسي وجلس أمام غرفة الحراس.
يحدث نفسه في صمت، ويعاتبها ويقول:
” انني لم أكن بخيلاً، إنني أحرص على أموالي من التشتت وهذا ليس من أجلي، بل أجل أولادي. لا أريدهم أن يعيشوا نفس المصير.
لقد توفي أبي وأنا كنت أكبر أخوتي، ولم أكمل تعلميني وانتسبت إلى العسكرية لكي أصرف عليهم. لم يكن لنا بيت وكنا نعيش بالاجار، وأرهق كاهلي الدين الذي وضعته على نفسي لأجل أخوتي، وعندما اشتد عودهم وكبروا، لم يفكر أحد فيهم بأن يعينني، ذاك الدكتور وذاك المهندس وتلك المُدرسة. كانوا ينظرون لي نظرة استحقار بأنني الفاشل الذي لم يكمل تعليمه ”
أخذ رزمة مفاتيح المدرسة، ثم توجه للمقصف، فتح الباب ودخل. أخذ كرسيا كان موجودا هناك وصعد عليه.
نزع غطاء رآسه ” الشماغ” وربطة في مروحة المقصف ثم لف العقدة حول رقبته وتعلق بها.
كانت الروح تنازع، أزرق وجهه، ترتطم أرجله مع بعضها وحجمه الكبير سارع في إخراج الروح لرب العباد.