أنينُ الرُّوحِ: هل نُصْغِي لأَلَمِنَا أَمْ نَكْتُمُهُ؟


صموئيل نبيل أديب
قالَ العَلَّامَةُ (لِسَانُ الدِّينِ الْخَطِيبُ): “هَوِّنْ عَلَيْكَ فَمَا الشَّكْوَى بِنَافِعَةٍ وَكُلُّ صَعْبٍ إِذَا هَوَّيْتَهُ هَانَا.”
فَرَدَّ عَلَيْهِ الشَّاعِرُ (بَشَّارُ بْنُ بُرْدٍ) قَائِلًا: “وَلَا بُدَّ مِنْ شَكْوَى إِلَى ذِي مُرُوءَةٍ يُوَاسِيكَ أَوْ يُسَلِّيكَ أَوْ يَتَوَجَّعُ.”
كان كلاهما يرى الحياة من نظرتِه هو.
فـ (لسان الدين) كان يرى أنَّ الشكوى مذلَّةٌ، رافعًا شعار “اكتم في نفسك.” ربما كان ذلك بسبب معيشته في بلاط الملك بالأندلس حيث أخبثُ المكائد والدسائس، حيث الشكوى ضعفٌ ومذلَّةٌ، الأمر الذي جعله يهرب في طول الأندلس وعرضها هربًا من اتهامات الكفر التي لاحقته، وهو الطبيب والفيلسوف والمفكر الذي أثرى الفكر الأندلسي بكتاباته.
بينما كان بشارٌ يرى أنَّ الشكوى واجبةٌ للحبيب أو الصديق. كان يرى أنَّ العالم بدون أصدقاء قاسٍ جدًا، وأن كتمان الألم أقسى من أن نحتملَه وحدنا. ربما كان ذلك بسبب أن بشارًا كان أعمى النَّظر. والأعمى يحتاج إلى من يقودُه، وهو الذي امتلك من براعة الشعر وناصية الأدب ما جعله محبوبًا بين الناس حتى قيل: “إنه لم يكن في زمن بشار بالبصرة غزلٌ ولا مغنيةٌ ولا نائحةٌ إلا وقيل من شعر بشارٍ شيئًا” أي أنَّ بشارًا كتب أشعارًا في الغناء والغزل والحب وحتى في الموت.
نختلف كبشرٍ في حاجتنا إلى الحب، فمن يرى أنَّ الشكوى مذلةٌ، وبين من يرى أنَّ الشكوى واجبةٌ. لم يجد (لسان الدين) في نفوس سكان القصور من يرتاح على صدره ليُخبره بآلامه، بينما وجد الأعمى (بشار) من يحنو عليه وهو ابن الخادم وإخوته كانوا جزّارين!
لم تحتوِ القصور على الحب، وضمّت الأكواخ قلوبًا راقيةً. لم يمنع كتمان الشكوى موت (لسان الدين) مشنوقًا في سجنه بسبب الاتهامات بالكفر، ولم تشفع براعة (بشار بن برد) من موته بالضرب 70 جلدةً.
بين كتمان الألم والتحدث عنه ، تمضي رحلةُ عمرنا، تتوق فيها أرواحنا إلى “ذي مُروءةٍ” نادرٍ، يحنو على جراحنا ويصغي بعمقٍ لأنين أرواحنا المكتومة.
كلَّ الشكر لكل من يُضيّعُ من وقته الثمين ليُصغي إلى أنينِ المتعبين في هذا العالم. عطاؤكم هذا ليس مجرد وقتٍ، بل هو بلسمٌ يداوي الجراح ويُعيدُ الأملَ لنفوسٍ أرهقها الألم.