أفلاج عُمان: شرايين الحياة في قلب الصحراء


محمد بن العبد مسن
في أحشاء الصحراء العُمانية، حيث تلهب الشمسُ الحارقة وجهَ الرمال، وتنام الجبالُ كعمالقة صامتة، تُخبئ الأرضُ سراً مائياً عجيباً. إنها “الأفلاج “، تلك الشرايين الفضية التي نحتَها الإنسانُ بإصرارٍ وحكمة، لتحوِّل القحطَ إلى واحاتٍ نضرة، وتكتب على جبين التاريخِ ملحمةَ انتصارِ الحياةِ على الجفاف.
قنوات تُناجي النجومَ من أعماق الأرض
ليست الأفلاج مجرد قنواتٍ مائية، بل هي قصائدُ هندسيةٌ منقوشةٌ بلغة الماء والصخر. تمتد تحت الأرض كأفعوانٍ من الفضة، تخترق الجبالَ والوديانَ لعشرات الكيلومترات، محفورةً بأناملَ صبورةٍ تعرفُ لغةَ الأرضِ وأسرارها. في “فلج الخطمين” ببركة الموز، ينساب الماءُ كدموع الفرح من عين الجبل، ليروي ظمأَ النخيلِ والبشر، كأنما الأرضُ هنا تُنشد أغنيةَ الخلود.
“حكايةُ عدالةٍ تحكُمها دقاتُ الشمسِ وظلُّ الحجر”
ما أبدعَ حكمةَ الأجدادِ حين صاغوا نظاماً للمياهِ يُحاكي دقةَ الكون! فـ”الساعات المائية” و”المنجور” ليست أدواتٍ لتقسيم الماء فحسب، بل هي عقدٌ اجتماعيٌ نادر، تُقاسُ فيه الحقوقُ بظلِّ الشمسِ ودورانِ العصا. وكأن الحجرَ الدائريَّ يهمسُ للفلاحين: “هذا نصيبُكم من الحياة”. إنه نظامٌ يُجسِّدُ فلسفةً عُمانيةً عميقة: الماءُ هبةٌ إلهيةٌ لا يُمنعُ عنها عطشان.
معجزةُ الماءِ الذي يصعدُ إلى السماء!
هل رأيتم يوماً ماءً يتحدى الجاذبيةَ صاعداً إلى القمم؟ في بعض الأفلاج، يتحول السائلُ إلى ساحرٍ يرقصُ على أنغامِ القوانين الفيزيائية. بفضل **الضغط الهيدروليكي**، يرتفع الماءُ كطائرٍ يحلقُ عكسَ التيار، ليُزهِرَ الواحاتَ في أحضان الجبال. إنها هندسةٌ تلامسُ حدودَ السحر، وكأن الأجدادَ تحدثوا بلغةِ نيوتن قبل قرون!
أفلاجٌ لا يعرفُها الجفاف.. أسرارُ أعماقٍ لا تنضب
رغم قسوةِ الزمنِ وتقلباتِ السماء، ما زال “فلج دارس” في نزوى يهمسُ بمائه منذ ألف عام، كأنما الأرضُ هنا تبكي فرحاً فلا تتوقف عن العطاء. العلماءُ يحاولون فكَّ طلاسمِ هذه الينابيع الخالدة، لكنها تبقى سراً من أسرارِ الطبقاتِ الجوفية، وشاهداً على حكمةٍ إنسانيةٍ فهمتْ كيف تُصالحُ الطبيعة.
تراثٌ يُناغمُ الكونَ في سجلِّ اليونسكو
لم تكن “خمسةُ أفلاج عُمانية” في قائمة التراث العالمي مجردَ اعترافٍ بتاريخ، بل إشادةٌ بحضارةٍ جعلت من الماءِ فناً وعدلاً واستدامةً. إنها إرثٌ يُعلّمُ العالمَ اليومَ كيف تُدارة المواردُ بقلبِ الحكيمِ ويدِ الفنان.
خاتمة: الأفلاجُ.. رسالةُ ماءٍ إلى المستقبل
في زمنٍ أصبحتْ فيه المياهُ ذهباً أزرقَ، تهمسُ أفلاجُ عُمان للبشرية: “الحياةُ تُبنى بالتعاونِ مع الأرض، لا بالصراعِ ضدها”. إنها ليست قنواتٍ مائيةً فحسب، بل دروسٌ في التواضعِ والإبداعِ والاستمرارية. فكلُّ قطرةٍ تسيلُ فيها هي قصيدةُ شكرٍ للإله، وذكرى لإنسانٍ حوَّلَ الصحراءَ إلى جنةٍ بلا أسوار.