أبي


مريم عبدالرحمن الهوتي
وما أدراكم مَن كان أبي ، كان أبي أعظم رجل في عيني وقلبي ، كان عصاميّاً بصورَةٍ غريبة من صور الشقاء…كان من زمن الجوع، زمن الحاجة، والأنا، زمن نفسي ونفسى…
أشرقت الشمس في حياة أبي على أرضٍ مُظلمة ليلاً.. على أرضٍ تحتضن روحَين ملائكيتين، كما سمعت عنهما: روح جَدّي وجدَّتي.
وُلِدَ أبي يتيماً، لا أبٌ يؤذن في أُذنه اليُمنى ويُقيم في الأُذُنِ اليُسرى، ولا حِضن أُمٍّ، ولا أختٌ تضحك بفرحة الخبر السعيد: خَبَر ميلاد أبي.
وُلِدَ أبي في زمن الفقر، زمن القحط والمكيا المسلوب.
كُفِلَ أبي من قِبَل عائلةٍ بدوية، وسُمّي “مبارك”، ولُقِّبَ (بروك). يبدو أنه كان مباركاً على تلك العائلة، ربما على القبيلة أجمعها.
عاش وتربَّى مع عائلة بدوية ميسورة الحال، تربَّى على مبادئ ومفاهيم وقيم أصيلة. كان حديثه الحِكَمَ والأمثال، وفي صمته تتكلم عيناه بعزة نفس، وكأنه شيخ القبيلة، وينصت بذهنِه لحديث الكبار. كَبُر ذلك الصبي وأصبح ورعاً، فكر في العودة إلى قبيلته، إلى مسقط رأسه، إلى (مطرح)، حيث قبيلة الهوت، ذلك البلوشي الأصيل المنبت، الذي زرعه القدر تائهاً في الخطوات، ثابت الظل، لا انكسار ولا اعوجاج، رغم انكسار خواطره وقسوة الظروف عليه.
عاد إليهم بدويَّ النطق والملبس، ولم يتعرفوا عليه. كان غريب الهيئة بالنسبة لهم، إلا خالتَه التي، من رائحة أمه، حضنته وبلَّلت كتفه بالدموع، حزناً على فراق أختها، وحزناً على يتم أبي وبُعده عنها. ولكن عودة أبي إليها قلبت آية الحزن إلى فرحة في قلبها. غيَّرت اسمه من “مبارك” إلى “عبدالرحمن”. عاش حياته عبداً للرحمن، مطيعاً لربه، متوكلاً عليه في أمور الحياة من قسوتها ولينها.
أكمل مشوار العمر معها بقسوة الحياة وطيب معيشها، حتى أصبح شاباً له عالمه الخاص، قصة عشقه للباس الخنجر. كان رجل الصحراء بكل تفاصيله، كان كالرّحَّال. بدأ تجارته ببيع الخناجر والفضيات والسيوف بترحاله من مسقط إلى معظم ولايات السلطنة، وكأنه سفير للتراث العماني، ليحفظ الزي العماني في حله وترحاله أينما كانت خطواته.
حتى إذا استقر في متجر صغير في سوق مطرح، كان متجره البسيط ميناءً يرسو عليه السياح الأجانب. واشتهر دكانه البسيط باسمه العظيم الذي كوَّنه من عرق جبينه، وتعارف عليه تجار الأسلحة التقليدية والفضيات والعصي. وكان دكانه مقصد تجار الولايات العمانية. ولا يزال اسمه يلقى صَدًى في سوق مطرح.