Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
الأدب والشعر

ثلاثيات انتحار

موسي رامس

موسي رامس

الموت والحياة… توأمان ولدا في هذه الدنيا منذ بداية الدهر وسيبقيان فيها حتى نهاية الزمان. وجهان لعملة واحدة، لكنهما مختلفان في القيمة مثل اختلاف الليل والنهار.

لم يفهم بنو البشر المعنى الحقيقي لهما، ومهما ظنوا أنهم هم من يملكون الخيار في العيش أو الموت، فتأكد دائماً بأن لكل شخص مساراً ما سيسير إليه. فهو لم يكن له الخيار عندما وُلد، فكيف سيكون له عندما يموت؟

ولكن السؤال…

كيف قرر الإنسان الانتحار، ولماذا؟

كيف كانت آخر مشاعره؟

بفطرتنا، نحن جنسٌ نحب الحياة ونتشبث بها إلى آخر رمق. مهما عصفت بنا الدنيا بمصائبها وأهوالها، إلا أننا اتفقنا جميعاً بأن “القادم أجمل“.

فكيف علم المنتحر بأن القادم لن يكون أجمل؟

كيف علم بأن لا سبيل للهرب من مصائب الحياة إلا بالخروج من الحياة نفسها؟

النسبة

كان يوماً حاراً من أيام عام 96، الشمس عمودية على رؤوس الناس عند انتصاف الظهيرة. الهواء شبه منقطع، وهدوءٌ غريب يغلب على المكان. لا تسمع سوى صوت حشرة “السي كادا” المزعجة، أو كما تُسمى محلياً “الصروخ”.

اجتمعت العائلة على مائدة الغداء في تمام الساعة الواحدة. فالوالد عبد الله رجلٌ نظامي، يحب أن يتغدى مبكراً ليَتسنى له الوقت لأخذ قيلولة الظهيرة.

الكل مجتمعون حول السفرة البسيطة، والتي كانت بالنسبة لهم أهم من أي شيء آخر. الصغير سيف كان قد أنهى السنة الأولى في المدرسة واستعد لقضاء إجازة الصيف الطويلة: النوم والسهر ولعب “الأتاري” لوقت متأخر. أما ليلى، فقد أنهت الصف الرابع وبدأت بالفعل الاستعداد للصف الخامس، فقد أحضرت كتب ابنة عمها وبدأت بالمذاكرة. أما محمد، فهو في المرحلة الإعدادية، وقد انشغل باختبار مرحلة البلوغ في هذا السن.

سأل الأب زوجته في استغراب:

“هين سلمى، ما جات من المدرسة؟”

الأم:  “ما حيدها، ضارية تجيني المطبخ يوم توصل.”

قال محمد:  “باه، اليوم نتائج الثانوية العامة، يمكن بعدها في المدرسة.”

قالت الأم:  “ليلى، روحي شوفيها، يمكن جات ونامت.”

ذهبت ليلى تركض مسرعةً، ومن خلفها تلوح ضفيرتا شعرها الأسود. حاولت أن تفتح الباب، لكنه كان مغلقاً. طرقت ثم نادت، لكن ما من مجيب.

عندما عادت إلى أمها وأخبرتها، قامت الأم بنفسها لترى لماذا لا تجيب.

اقتربت الأم من الباب. في البداية، كانت تتحدث بنبرة حادة، تأمرها بأن تفتح الباب… تهددها بأبيها الغاضب، الذي تعلم بأنه لم يرفع يديه عليها أبداً، ولن يرفعها. ثم صمتت، وقالت في نفسها: هل هي النتائج؟ لا، ابنتي فتاة متفوقة، ودائماً ما تكون من الأوائل.

عندما لم تُفلح محاولات الأم في إقناعها بفتح الباب، اشتاطت غيظاً، وركلت الباب ثم قالت:

“لا تلوميني يوم يجي أبوك يكسر الباب على راسك!”

ثم ذهبت لتخبر زوجها بالأمر.

جاء الأب ومحمد، ومن فورهم حاولوا فتح الباب عنوةً. محمد حاول أن يمنعهم من كسر الباب، فحاول فتح القفل بمفك البراغي، لكن عندما طال الأمر، زال صبر الأب، وبضربة واحدة بكتفه الغليظ، كسر الرجل الخمسيني (الذي كان عسكرياً سابقاً) الباب وأسقطه أرضاً.

كان المنظر غريباً عليهم، كأنه أحد مشاهد مسلسل درامي أو فيلم أجنبي.

جثة باردة معلقة في مروحة الغرفة بملابسها المدرسية ذات اللونين الأبيض والرصاصي، مخنوقة بغطاء رأسها الأبيض… عيونها الخضر مفتوحة، بارزة كأنها شاهدت شبحاً قبل أن تفارق روحها الجسد.

لم تتحمل الأم المشهد وسقطت من فورها. محمد هرع مسرعاً وأخذ إخوته الصغار قبل أن يشاهدوا الجثة، فتلك صورة لن تُمسح من الذاكرة، كما أيقن لاحقاً.

بدأ الأب في الصراخ، كأنه طُعن في ظهره بسكين غير حاد، ألمٌ مر في حلقة وبطء. أحس بشرايين قلبه تتقطع. أحس بأنه عاجز.

ابنتي… أول فرحتي… أمي وصديقتي…”

كان يبكي بحرقة وهو ينزلها من على حبل المشنقة. لم يكن يعلم أنه سوف يحملها بين ذراعيه مجدداً بعدما كبرت. يبكي ويسأل نفسه: لماذا؟

احتضن ابنته وظل يبكي مثل الأطفال، والدموع غسلت خدها الجاف.

في يدها، وجد الورقة التي اعتصرتها بقوة ولم تفلتها. ورقةٌ كُتب عليها سطر واحد:

ناصر، أنا ما جبت نسبة.”

صعدت سلمى للباص

صعدت سلمى للباص وجلست بجوار ابنة عمها مريم. ألقت التحية، فردت عليها مريم قائلةً:

“كيف، مستعدة للنتائج؟”

قالت سلمى، والتوتر واضح في عينيها:

“إيوا، مستعدة ومتفائلة خير، وربي يوفقنا.”

في أعماق قلبها، لم تتمنَّ الخير لها. تمنت أن ترسب، أن تفشل في إحراز النتيجة المطلوبة، أن يحدث مكروه لها… أن تموت.

كانتا متفوقتين في الدراسة منذ الصفوف الأولى. وكانت مريم هي من تأتي في المقدمة أولاً، وفي المركز الثاني كانت تأتي سلمى. كلما اجتمعت العائلة في مناسبة ما، تبدأ المقارنة بينهما. فقد خُلِق جو التنافس بينهما منذ أن كانتا طفلتين صغيرتين. هما لم تطلبا هذا، ولكن هذا هو الحال إذا وُلدت في جو عائلة يكثر فيها أبناء العمومة، فالتفضيل والمقارنة شيء لا بد منه.

كانت مريم ببشرتها البيضاء الناصعة تلفت الانتباه إلى كل من يراها. وقد خُطبت أكثر من مرة قبل أن تنهي الثانوية، لكن الأب رفض تزويجها. أما سلمى، فقد كانت تُسمى “الساحرة” لجمال عينيها الخضر الناصعتين، كانت تسحر الرجال بعينيها. بنتا عم، لكن كالملاك. حتى هي الأخرى خُطبت أكثر من مرة، لكن أباها قال: “هي موعودة لابن عمها”.

ابن عمها ناصر، الذي يسبقها بعامين، هو الآن مرشح في سلاح الجو السلطاني، والأقرب لهن سناً.

كانت سلمى ستحصل عليه، ستكون لها وهو لها. لم يتكلما قط بما يجول في خواطرهما، لكن عيونهما قالت الكثير. لم يتكلما إلا في تلك المرة، في يوم العيد قبل عام من الثانوية العامة، عندما اجتمعوا في بيت العود سالم ليلقوا التحية على جدتهم. حينها تشجعت وقررت أن تتحدث إليه، أن تصارحه بحبها. فقال:

“أنا بعد أبغاك، أنت بنت عمي وأنا أحبك. لكن عمي سليمان يبغاني حال مريم، وأبوي قال له إن عمي عبد الله يبغاني حالك. ما قدِر يزعل إخوانه اللي أكبر منه، فجمعهم وقال لهم: اللي تجيب نسبة أكثر وتدخل الجامعة، هي اللي بنخطبها حال ناصر. ما قدِرت أقول لأبوي إني أحبك وأبغاك وأنت تبيني، ما قدِرت لأنهم ما بيخلونك في حالك… بيضربونك لو عرفوا.”

لم تستطع سلمى أن تقول شيئاً. مشاعرها متخبطة. لأول مرة يبوح بما في خاطره، وفي نفس الوقت يواجهها بمعضلة أخلاقية لا يستطيعان الفرار منها.

وعود… نحن لعبة بين أيديهم، يقررون ماذا نريد وماذا نحب، ماذا نلبس وماذا نأكل… ماذا ندرس.

تتذكر قبل خمس سنوات، عندما أرادت ابنة عمها الكبيرة فاطمة أن تدرس في الخارج، فقد مُنحت بعثة من الحكومة للدراسة في أمريكا في تخصص الطب. قال لها أبوها بكل برود:

“ما عندنا بنات يسافروا ويشتغلوا مع العرب. تبي عندك كلية التربية في الرستاق، ما تبي اجلسي في البيت.”

تتذكر نظرتها وحسرتها، وقبولها الأمر. تتذكر أن بعد هذا انطفأت منها الفرحة، ولم تعد فاطمة كما كانت من قبل.

تباً للعقليات القديمة! لوعود الزواج لأطفال لم يبلغوا الحلم حتى.

عندما وصلوا إلى المدرسة، كانت شبه خالية، فقط طالبات الثانوية العامة متواجدات هناك لاستلام الشهادات. في لوح الإعلانات، كانت قد عُلقت الأسماء مع النسبة المئوية لكل طالبة.

راقبت سلمى اللوح من بعيد وهي تقترب لتبحث عن اسمها. لم تسمع ضوضاء الطالبات وتدافعهن وصراخهن، وقد حدّقت بصرها وهي تدقق وتبحث… سين… سين…

ها هو… سلمى عبد الله.  النسبة: 98%.  

لم تصدق. اقتربت وشاهدتها بوضوح، وطارت من فرحتها، وفي خاطرها تقول: لقد هزمتها! هزمت ابنة عمي! أخيراً تفوقت عليها… أخيراً ناصر لي!

تذكرت: أين هي؟ لقد دخلنا سويةً المدرسة. أين مريم؟

شاهدت مجموعة من الطالبات قد تجمهرن عند باب المديرة، يحاولن أن يلقين النظر إلى الداخل. لقد كانت المديرة مجتمعة مع المدرسات للتحدث إلى مريم.

انسلت سلمى من بين الطالبات ودخلت الغرفة. عندها شاهدت المديرة تسلم هدية إلى مريم وشهادة تقدير مكتوب عليها:

(الأولى على السلطنة)

تبادلتا النظرات، وقالت مريم بعينيها: لقد فزت! ليس عليك فحسب، بل على كل البنات… أنا الأولى، وناصر لي.

لم تتحمل سلمى الوقوف، وكادت أن تسقط لولا أن التقطتها بعض صديقاتها. لم تُعرِ مريم أي اهتمام لها، ومشت وكأنها غير موجودة.

إنها خيبة الأمل، الفشل، الخسارة. الآن ناصر سيتزوج بالطالبة المتفوقة. إنها لم تهزمني فقط، بل سحقتني سحقاً.

اسودت الدنيا في عينيها، وأصبح كل شيء بلا معنى. ترى كل شيء رمادي اللون. لم تستطع النهوض. حينها أمرت المديرة السائق بإرجاعها إلى المنزل.

في طريقها للعودة، كانت تفكر وتسأل نفسها: ما الذي ستفعله؟ هل تحاول مرة أخرى السنة القادمة؟ وحتى لو فعلت، فكم نسبة حصولها على المركز الأول على السلطنة؟ وإن حصل هذا، فستكون مريم قد تقدمت عليها بفارق سنة كاملة، هذا إذا لم يعلن عمها خطبتهما رسمياً.

دائماً ما تسبقني، دائماً هي الأولى… دائماً ما تسرق الفرحة مني.

فكرت وقالت لنفسها:  لا، لن أدعك تأخذينه! لن أدعك تكونين محط اهتمام وأنظار الجميع اليوم! سأسرق الفرحة منك، سأكون أنا حديث الناس، لا أنت!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى