جان بول سارتر: فلسفة الحرية في مواجهة العبث


د. آمال بوحرب
في عالم يتسم بالقلق الوجودي والبحث الدائم عن المعنى، يبرز جان بول سارتر (1905-1980) كأحد أعمق الأصوات الفلسفية التي واجهت تناقضات الوجود البشري. عبارته الشهيرة: “الإنسان محكوم بالحرية”، تلخص جوهر فلسفته الوجودية التي جعلت من الإنسان كائنًا مسؤولًا عن صياغة ذاته في عالم خالٍ من المعاني المسبقة. أعاد سارتر، بفكره الثاقب وأدبه الملتزم، صياغة السؤال الأزلي: “ما الذي يجعل الحياة جديرة بالعيش؟”. في هذا المقال، نستكشف فلسفة سارتر من خلال مفاهيم الحرية، العبث، المسؤولية، والعلاقة مع الآخر، مع الإضاءة على تأثره بفلاسفة مثل كيركغور وهايدغر، وتأثيره في الفكر المعاصر، مضيفين تحليلًا معمقًا لأبعاد رؤيته الفلسفية والسياقات التي شكلتها.
الوجود يسبق الجوهر: أساس الوجودية السارترية
في قلب فلسفة سارتر يكمن المبدأ القائل: “الوجود يسبق الجوهر”. على عكس الأشياء المادية التي تُصنع لغرض محدد، يُلقى الإنسان في الوجود دون غاية مسبقة أو تصميم إلهي. هذا المفهوم يتردد صداه مع تأملات سورين كيركغور حول الذات الفردية، حيث يقول: “أنا موجود، لكن ماذا أكون؟ هذا هو السؤال”. لكن سارتر، في رؤيته الملحدة، يرفض وجود إله يحدد مصير الإنسان، مما يجعل الحرية عبئًا وجوديًا. في كتابه الرئيسي “الوجود والعدم” (1943)، يوضح سارتر أن الإنسان هو “مشروع” مستمر، يُشكّل جوهره من خلال اختياراته الحرة.
هذا الافتقار إلى جوهر مسبق يقود إلى العبث، وهو إحساس عميق بغياب المعنى المتأصل في العالم. في روايته “الغثيان” (1938)، يجسد سارتر هذا الشعور من خلال بطل الرواية أنطوان روكانتان، الذي يكتشف أن الأشياء موجودة “بلا سبب”، مما يثير لديه شعورًا بالغثيان الوجودي. لكن سارتر لا يرى العبث نهاية ميتة، بل دعوة للإبداع. هنا يمكن مقارنته بفريدريك نيتشه، الذي دعا إلى “خلق القيم” في مواجهة “موت الإله”. بالنسبة لسارتر، العبث هو نقطة انطلاق للإنسان ليصنع معناه الخاص، وهي دعوة لتحمل مسؤولية الحرية بشجاعة.
الحرية والمسؤولية: عبء الاختيار
الحرية عند سارتر مطلقة، لكنها ليست تحررًا خاليًا من التبعات. يقول في محاضرته الشهيرة “الوجودية مذهب إنساني” (1946): “عندما نختار، نختار للجميع”. هذا يعني أن كل فعل فردي يحمل طابعًا عالميًا، إذ يعكس رؤية الفرد لما يجب أن تكون عليه الإنسانية. هذا الاختيار يولد “القلق” الوجودي، وهو مفهوم مستمد من مارتن هايدغر، الذي تحدث عن “قلق الوجود” إزاء العدم. لكن سارتر يركز على القلق الناتج عن وعي الحرية المطلقة.
سارتر يقدم مفهوم “سوء النية” (mauvaise foi) ليصف حالة الهروب من الحرية. على سبيل المثال، النادل الذي يتصرف كآلة، وكأن دوره مفروض عليه، ينكر حريته ويختار العيش في وهم الضرورة. سوء النية هو نوع من التضليل الذاتي، حيث يرفض الفرد مواجهة مسؤوليته عن اختياراته. هذا المفهوم يكشف عن جانب نفسي عميق في فلسفة سارتر، إذ يرى أن الإنسان غالبًا ما يخاف من حريته لأنها تفرض عليه مسؤولية لا نهائية.
الآخر: الصراع والتضامن
علاقة الإنسان بالآخر تشكل أحد أبرز التحديات في فلسفة سارتر. في مسرحيته “لا مخرج” (1944)، يعلن: “الجحيم هو الآخرون”، مشيرًا إلى كيف تُحوّل نظرة الآخر الفرد إلى موضوع، مما يحد من حريته. هذا الصراع مستوحى من فكرة هايدغر عن “الوجود-مع”، لكن سارتر يضيف بعداً نفسياً واجتماعياً. نظرة الآخر، بحسب سارتر، تُشعر الفرد بالعار أو التهديد، لأنها تُعرّفه من الخارج، مما يخلق صراعًا وجوديًا.
ومع ذلك، لا يقتصر سارتر على هذا الصراع. في أعماله اللاحقة، مثل “نقد العقل الجدلي” (1960)، يقترح رؤية أكثر تفاؤلاً، حيث يمكن للأفراد أن يتحدوا في مشاريع جماعية دون التضحية بحريتهم. هذه الرؤية تعكس تحول سارتر نحو التفكير الاجتماعي والسياسي، حيث يرى أن التضامن ممكن إذا استند إلى الحرية المتبادلة بدلاً من الهيمنة.
الالتزام: من الفلسفة إلى العمل
لم تكن الوجودية عند سارتر مجرد تأمل نظري، بل دعوة إلى العمل الملتزم. يقول سارتر: “الكلمات أفعال”، مؤكدًا أن الفكر يجب أن يترجم إلى فعل ملموس. دعمه للحركات المناهضة للاستعمار، مثل دعمه للثورة الجزائرية، ومعارضته للحروب، مثل حرب فيتنام، تُظهر هذا الالتزام. هنا يمكن مقارنته بنيتشه، الذي دعا إلى “إرادة القوة”، لكن سارتر يركز على القوة الأخلاقية والسياسية التي تخدم العدالة والحرية.
سارتر يرى أن الفرد لا يمكن أن يكون حرًا في عالم يعاني من الظلم. هذا الموقف جعله رمزًا للمثقف الملتزم، الذي يستخدم قلمه وسيلة مقاومة. على عكس العديد من الفلاسفة الذين انحصروا في الأكاديميا، كان سارتر صوتًا عامًا، يتحدث إلى الجماهير ويشارك في النضالات السياسية.
سارتر والأدب: من الرواية إلى المسرح
امتد تأثير سارتر إلى الأدب، حيث استخدم الرواية والمسرح لتجسيد أفكاره الفلسفية. في أعمال مثل “الأيدي القذرة” (1948) و“الذباب” (1943)، يضع شخصياته في مواقف وجودية معقدة، حيث تُمتحن حريتهم وضمائرهم. الأدب، بالنسبة لسارتر، ليس مجرد ترف جمالي، بل أداة للتفكير والمقاومة. في “الغثيان”، يستخدم السرد لاستكشاف العبث، بينما تُظهر مسرحياته، مثل “لا مخرج”، الصراعات البشرية في أبعادها النفسية والاجتماعية.
سارتر يرى الأدب وسيلة لتحرير القارئ، إذ يدعوه إلى مواجهة حريته الخاصة. هذا الالتزام الأدبي جعله يرفض جائزة نوبل للآداب عام 1964، معتبرًا أن قبولها قد ينتقص من استقلاله كمثقف ملتزم.
الوجودية اليوم: حضور متجدد
رغم انحسار الموجة الوجودية بعد ستينيات القرن العشرين، فإن أفكار سارتر تعود بقوة في سياق الأزمات المعاصرة. من أزمة المناخ إلى العزلة الرقمية، ومن الاستبداد السياسي إلى الاستهلاك الجماعي، تبدو دعوة سارتر للحرية والمسؤولية أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى. في عالم تهيمن عليه التكنولوجيا، حيث يشعر الأفراد بالاغتراب، تقدم الوجودية إطارًا لفهم الذات وإعادة صياغة المعنى.
على سبيل المثال، مفهوم “سوء النية” يمكن تطبيقه على الأفراد الذين يستسلمون للضغوط الاجتماعية أو الخوارزميات الرقمية، متخلين عن حريتهم في التفكير النقدي. كذلك، فإن دعوة سارتر للالتزام تُلهم الحركات البيئية والاجتماعية التي تسعى إلى تغيير العالم من خلال المسؤولية الجماعية.
سياقات الفلسفة السارترية: تأثيرات وتحديات
تشكلت فلسفة سارتر في سياق القرن العشرين المضطرب، مع الحروب العالمية، الاستعمار، والتحولات الاجتماعية. تأثره بكيركغور، الذي ركز على الفردية، وهايدغر، الذي استكشف الوجود، مكّنه من صياغة وجودية ملحدة تركز على الحرية. لكنه واجه تحديات، مثل اتهام الوجودية بالتشاؤم أو الفردية المفرطة. سارتر رد على هذه الانتقادات في “الوجودية مذهب إنساني”، مؤكدًا أن فلسفته تؤمن بقدرة الإنسان على خلق معنى مشترك.
كذلك، تأثر سارتر بالماركسية في أعماله اللاحقة، خاصة في “نقد العقل الجدلي”، حيث حاول التوفيق بين الحرية الفردية والتضامن الاجتماعي. هذا التحول أثار جدلاً بين أنصاره، حيث رأى البعض أنه تنازل عن الفردية الوجودية، بينما اعتبره آخرون تطورًا طبيعيًا لرؤيته.
الحرية كسؤال مفتوح
ما يميز فلسفة سارتر هو أنها لا تقدم إجابات نهائية، بل تطرح أسئلة مفتوحة حول المعنى، القيم، والاختيار. هذه الفلسفة، برغم راديكاليتها، تعترف بضعف الإنسان، لكنها تحتفي بقدرته على التمرد والإبداع. سارتر يدعونا إلى رؤية الحرية ليس كموهبة، بل كتحدٍ يتطلب شجاعة ووعيًا. في مواجهة العدم، يبقى الإنسان، في رؤية سارتر، “مشروعًا” حرًا، قادرًا على تشكيل مصيره حتى في أحلك الظروف.
فلسفة سارتر، إذن، ليست مجرد نظرية، بل دعوة إلى الحياة الأصيلة، حيث يتحمل الفرد مسؤولية اختياراته ويواجه العبث بإرادة لا تلين. في عالم متغير باستمرار، تبقى هذه الرؤية منارة لمن يبحثون عن معنى في زمن اللايقين