الحقيقة بين الوجود والماهية في الفكر الأرسطي

إن الفلسفة تعكس التحديات التراكمية التي واجهتها البشرية منذ أقدم العصور، ولعل مسألة الحقيقة تعد واحدة من أكثر القضايا تعقيداً وإثارة للجدل. يسعى الإنسان دائماً لفهم ما يكمن وراء الوجود، وما هي الماهية التي تشكل جوهر الحقيقة. في هذا الإطار، يحتل التراث الفلسفي لأرسطو مكانة بارزة، إذ أثرت أفكاره على مجريات الفكر الغربي منذ القرن الرابع قبل الميلاد وحتى يومنا هذا. ومع ذلك، فإن آثار هذا البحث عن الحقيقة تتجاوز أرسطو لتشمل فلاسفة آخرين مثل نيتشه، سارتر، سبينوزا، وابن رشد، الذين أضفوا أبعادًا جديدة على هذه القضية المعقدة تتعلق بين الوجود والماهية
يقدم أرسطو في فلسفته تصوراً مقابلاً بين الوجود (الذي يتعلق بالكيان) والماهية (التي تشير إلى جوهر الكيان)يعتبر أرسطو أن كل الأشياء تمتلك وجوداً حقيقياً، ولكن هذا الوجود لا يمكن أن يفهم بشكل كامل دون الانغماس في طبيعتها وخصائصها الجوهرية. فوجود الشيء يختلف عن ماهيته، إذ يمكن أن يتواجد شيء ما دون أن يعبر عن جوهره الحقيقي و لكن كيف يمكن للإنسان أن يدرك الماهية الحقيقية للوجود ؟
يعبّر الفيلسوف الهولندي سبينوزا عن الوجود بمفهوم “الجوهر”. يقول: “كل ما هو موجود له جوهر، وما يتمتع بوجود حقيقي هو ما يعبّر عن هذا الجوهر” (سبينوزا، “الأخلاق”). هنا نجد تقاربًا مع أفكار أرسطو، حيث أن فهم الماهية يصبح ضروريًا لإدراك الوجود فتكون الحقيقة معرفة في حد ذاتها
في رؤية أرسطو، ترتبط الحقيقة بمعرفة الأشياء كما هي، وهو ما يعرف بقانون الهوية: “الشيء هو ما هو” فالحقائق ليست مجرد أحكام مفرغة من محتواها، بل هي تجليات للواقع تمتد عميقاً في طبيعة الأشياء. يستخدم سارتر هذا المفهوم في تصويره للوجودية، إذ يبرز أهمية الوعي الذاتي. فهو يقول: “الوجود يسبق الماهية”، مما يعني أن الإنسان، ككائن واعٍ، هو من يحدد حقيقته من خلال أفعاله واختياراته (سارتر، “الوجود والعدم”).
فإذا كان الوعي الذاتي هو المفتاح لفهم الحقيقة، فكيف يتأثر هذا الوعي بالسياقات الاجتماعية والثقافية المختلفة؟
إن النظر إلى الماهية من منظور أرسطو يعني البحث في العوامل المكونة للأشياء، بينما يُعَدُّ التحقيق في الوجود سبيلاً لاكتشاف كيف تتجلى هذه الماهيات في العالم. ترتبط الماهية بخصائص الشيء، بينما يعدد الوجود تجاربنا الحياتية؛ لذا، فإن الفهم العميق للحقيقة يتطلب تآلفًا بين المفهومين. يظهر هذا الانسجام بين الوجود والماهية في فكرة “العرضيات” أو “العوامل الثانوية”، التي تخبرنا أكثر عن كيفية تفاعل الأشياء في الواقع ولماذا تتغير.؟
يضيف نيتشه بُعدًا فرديًا إلى الفهم الوجودي، حيث يعتبر أن “الحقيقة ليست شيئًا يمكن العثور عليه، بل هي خلق” (نيتشه، “ما وراء الخير والشر”). لذا، فإن الإنسان يتعين عليه أن يتجاوز القيود التاريخية والاجتماعية ليحقق وجوده أي إذا كانت الحقيقة تجربة فردية، فيجب ادراك أن للمعرفة ابعادا متشابكة في ظل هذه التجربة الشخصية؟
تأثرت رؤية أرسطو بشكل كبير بالفكر الفلسفي اللاحق، خاصة تأملات ابن رشد الذي كان له دور محوري في توصيل فلسفة أرسطو إلى العالم الإسلامي ثم إلى أوروبا. أعاد ابن رشد تفسير أرسطو بطريقة تعكس تعقيدات الفكر العربي الإسلامي، فهو حاول الجمع بين العقل والنقل، مما أضفى بُعدًا وجودياً إضافيًا للنقاش حول الماهية والوجود. يقول ابن رشد: “إن الفهم الصحي الذي يعتمد على العقل يساعد على التفريق بين الظواهر والحقائق” ابن رشد، “تهافت التهافت”
وفي سياق وجودي، يمكن النظر إلى هذا البحث عن الحقيقة كجزء من رحلة الإنسان نحو الفهم الذاتي. فكلما سعى الفرد لتفسير الوجود من حوله، كلما جوبه بأسئلة وجودية تتعلق بمعنى الحياة، الغرض من الوجود، والدور الذي يلعبه العقل في تشكيل هذه الرؤى. هيروا جاذبية سارتر في قوله إن: “الإنسان محكوم عليه بالحرية” تضيف عمقًا إلى مفهوم المسؤولية عن الحقيقة الفردية.
ولكن كيف يتمكن الفرد من العثور على معنى في وجوده في غياب قواعد موضوعية ثابتة على مستوى الحقيقة؟
حاول كانط طرح رؤى جديدة للحقيقة، حيث اقترح أن “الحقيقة ليست مجرد مطابقة بين الفكر والواقع، بل هي نتيجة للحدس والتجربة” كانط، “نقد العقل المحض ” يرى أن إدراكنا للعالم محكوم بمبادئ عقلية، وعلى هذا الأساس تتشكل تصوراتنا عن الحقيقة لذا، فإن ما يمكن أن نعتبره حقيقة ليس مجرد انعكاس للواقع، بل هو أيضًا بناء معتمد على الشروط العقلية التي تفسر هذا الواقع.
يظل الفكر الأرسطي كنزاً حقيقياً في معركة البشرية لفهم الواقع. بين الوجود والماهية يكمن ميكانيزم الحقيقة، وهو ما يتطلّب منا كفلاسفة ومفكرين التعمق في تلك الأسئلة الوجودية والتمعدن في الجذور الفكرية التي تركها أرسطو. إن رحلة البحث عن الحقيقة ليست مجرد مسعى معرفي، بل تعكس البعد الإنساني العميق للحياة، مما يجعلها تفوق بكثير حدود الفلسفة التقليدية وتدخل في عمق التجربة الوجودية. كما قال نيتشه: “الذي يحمل لماذا للحياة يمكنه تحمل أي كيف”، لذلك يبقى البحث عن الحقيقة دافعًا إنسانيًا خالدًا.
المصادر:
1. أرسطو، “الميتافيزيقيا”.
2. سبينوزا، “الأخلاق”.
3. سارتر، “الوجود والعدم”
4. نيتشه، “ما وراء الخير والشر”
5. ابن رشد، “تهافت التهافت
6. كانط، “نقد العقل المحض”