قراءة فنية تفصيلية لقصيدة “لعلّ القادمَ آية”

الوجودية والعبث الروحي
تعتبر قصيدة “لعلّ القادم آية” للشاعرة التونسية روضة بوسليمي واحدة من الأعمال الأدبية التي تعرض اللحظات الحياتية والروحية العميقة في هذا المقال، سنقوم بتحليل بناء القصيدة وأهم موضوعاتها ومضمونها، مع التركيز على العبثية الوجودية المتمثلة فيها.
تقول الشاعرة روضة بوسليمي:
هل أتاكم نبأ الغياب وما فعل بي؟
ونار من رجس أنوثة طهّرتني !!
ما غنّيت نشازا لحن الهوى
وقد قُضيَ أمره عندي
موعودة بأن ألقاك ذات قيامة
وإن تمنّعت ساعة اللّقاء
هذا ما جاء في الصّحف
وما في صحف القلب إلّا ما صدق من عشق…
كما بُشّر زكريّا بمن لم يكن له سميّا،
أرقب بشائر الرّبّ
بقصيد من رحم قلب
لا ينطق عن الهوى،
يخطّه نبض ذُلّلت له معارج السّماء.
كما بُشّرت مريم بياسوع البهيّ،
أمنّي النّفس بأسطورة من عينيّ تُتلى،
فأهيم، ومن حولي
فلا نلقى محلّا.
وقد صلّيت أن لا تكون لغتي ذبيحة،
وأن لا يكون دمها في الأرض حِلّا.
بوحي المجروح مازال يلهث،
يلملم رمادَ شوق تناثر بين شوك.
يا قصيدا عرّاني
فأمسى وجه الوجع سافرا،
دوّن تجاربي في ساحات الوغى،
ودارِ عن أعين العذّال أمرا عجبا.
إنّ بقيّةً منّي باقية على اعتناقها ملّة الحزن الجميل!
ما زلت تذكر أسماء الحبّ الحسنى
وبركات إحسان العشق العظمى.
يا من يدركه قلبي البالغ في الخذلان عتيّا!
إليك من روح تسبح في الشجن سلام،
ولك في فؤاد فُتن بك مقام.
ليس للشمس أن تنطفئ،
ليس للنجوم أن تنكفئ،
إنما الغافل ما عاد يراها كذلك.
اتّخذت من دم الحرف صراطا،
تحرّرت ممّا صدئ فيّ،
ركنت آهات مثقلات في ركن منسيّ،
فانجلت سحب،
وتجلّت شموس عرائس على عروشها،
واخترق صدرا تصبّر وصابر ضوء الفجر
وسبّح نبض بريء لخالق الأكوان ومدبّرها.
أنطقت حناجري بالحقّ،
استقطرت منها روح العطر،
وقد أيقنت أنّ القادم آية –
إنّ اليسر حقّ بعد العسر.
( روضة بوسليمي ) .. تونس
تحليل قصيدة “لعلّ القادم آية”
تعتبر هذه القصيدة شاهدًا على قدرة الشاعرة على استكشاف الأعماق النفسية للإنسان حيث تمتزج الأبعاد الروحية والحياتية بأسلوب أدبي فني مميز، تُلخص الكلمات الوجع والحب والأمل في صورة شعرية ساحرة. مما يجعلها من الأعمال المعبرة في الأدب العربي المعاصر. فهي تحمل في طياتها معاني عميقة تتعلق والشوق والفقد وتجسد مشاعر تناقضات الحياة الإنسانية. كما قال الفيلسوف الوجودي سورين كيركيغارد: “الوجود يكتسب معناه من الاختيار”.
الكتابة والعبث الوجودي
العبثية الروحية في الشعر ليست مجرد تعبير عن الحزن أو الفقد، بل هي استكشاف عميق لروح الإنسان وجدليته مع الحياة، التي تعكس البحث الدائم عن المعنى في عالم يبدو غير منطقي ففي في قصائد مثل “عزلة الرجل العجوز”، يستحضر “أودن “مشاعر الوحدة والفقد، حيث يصف معاناة الإنسان في العالم الحديث الذي يبدو خالٍيا من المعنى ويتجلى شعور العدمية في الشخصيات التي تتفاعل مع الحياة بدون أي أمل ولعل التعبير عن هذا الوجود لا يكون إلا بإتقان أساليب اللغة ومعرفة أبعادها فكيف ساهمت لغة الشاعرة في إيصال هذا العمق الوجودي ؟
تعتمد الشاعرة على تقنيات لغوية معقدة، التشبيه والاستعارة والمحسنات اللغوية لتعبر عن تجارب إنسانية عميقة تتعلق بالوجود والمعنى كما تستخدم الرمزية لتعكس التناقضات بين الألم والأمل، مما يمنح النص عمقًا روحانيًا وفلسفيًا. من خلال نصوصها، تتلاقى المشاعر الشخصية مع الأسئلة الوجودية الكبيرة، متجاوزة الحدود التقليدية للشعر فتصبح الكتابة لها فنا وإبداعا .
أولا – البناء الفني في القصيدة
1. الأسلوب اللغوي: تستخدم الشاعرة لغة غنية بالصور البلاغية والاستعارات، مما يخلق جواً شعرياً مكثفاً. تعبيراتها مثل “نار من رجس أنوثة طهّرتني” تعكس الصراع الداخلي، فتضع المعاني للعاطفة والوجود في سياق شعري متجانس.
2. التشبيه: استخدمت الشاعرة العديد من التشبيهات مثل “كما بُشر زكريا” ومقارنة حالها بحال مريم، مما يربط تجربتها الشخصية بشخصيات دينية معروفة، مما يضفي عمقًا إنسانيًا وعاطفيًا.
3. الاستعارة: هناك استعارات عميقة تعبر عن الشجن والمعاناة، مثل “نار من رجس أنوثة طهّرتني”، حيث يتطلب “النار” كرمز للألم الذي يؤدي في النهاية إلى تطهير الروح.
4. التكرار: تسجيل بعض العبارات والكلمات مثل “ليس للشمس أن تنطفئ”، مما يحافظ على الحد الأقصى من رسالة الأمل والتفاؤل.
5. الرمزية: العديد من الرموز المحاضرة في الهدف، مثل “أسماء الحبّ الحسنى” و”الحزن الجميل”، مما يعكس التناقضات في المشاعر الإنسانية ويعبر عن الذات.
6. الصورة الفنية: تمنح الصور التي تتحدث عن السماء والنور، مثل “تجلّت شموس عرائس على عروشها”، إحساسًا بالحرية والفرح بعد الثقة.
7. الإيقاع: يظهر الإيقاع الشعري من خلال تكرار بعض المفردات والتراكيب، مما يضفي على النص تماسكاً ويعزز من شعور الكثافة العاطفية.
ثانيا – الموضوع والمضمون
1. فكرة الغياب: تعكس الأبيات الأولى تأثير الغياب على الروح والعواطف، حيث تشير الشاعرة إلى “نبأ الغياب وما فعل بي”، ما يدل على الألم الناتج عن الفقد على المستوى المعنوي والجسدي.
2. التصوير الديني: يتم استخدام الصور الدينية بشكل بارز، مثل الإشارة إلى زكريا ومريم، مما يضفي بعداً روحانياً ويعبر عن الأمل في التجديد والعثور على الحب بعد الألم.
3. الحب والفراق: يتجلى موضوع الحب بشكل واضح، لكن في سياق فقدانه، مما يولد الأمل على قدرة البقاء في حالة من الحزن الجميل.
ثالثا – العبثية الوجودية في القصيدة
لقد تناول ألبير كامو في روايته “الغريب” تجربة شخصية تعيش في عالم عبثي، حيث يواجه البطل مورسو عدم المعنى في الحياة ويتعامل مع الفقد والموت بطريقة غير تقليدية. إن العبثية تتجلى غالبًا في الصراع الداخلي، وفي هذه القصيدة يظهر ذلك من خلال التطابق بين المفاهيم المتمثلة (الصراع بين الألم والأمل، الفقد والحنين)…
رابعا – صراع الوجود والفقد
تُعبر الشاعرة عن شعور عميق بفقدان المعنى في الحياة بسبب الغياب، مما يخلق حالة من العبثية. الفقد عند الشاعرة يمتد ليشمل فقدان المعنى والأمل. هذا الصراع الداخلي يتجلى في مشاعر الحب والحنين مع مشاعر الفقد والفراغ، مما يتطلب البحث عن معنى الوجود رغم الألم.
الأمل والتجديد
بالرغم من كل الألم، تقدم الشاعرة إشارات إلى الأمل والتجديد تناقضا يعكس جماليات العبث ورغبة الإنسان في التكيف والبحث عن معانٍ جديدة. كما يقول جان بول سارتر: “الوجود يسبق الجوهر”، مما يوضّح الرؤية الوجودية عن قوة الإرادة البشرية في مواجهة الفقد والعبث.
تعتبر قصيدة “لعلّ القادم آية” شهادة على قدرة الشاعرة على استكشاف الأعماق النفسية للإنسان، حيث تمتزج الأبعاد الروحية والحياتية بأسلوب أدبي فني مميز وإن الإبداع عموماً هو وليد المعاناة، كما يقول محمود المسعدي: “هو معاناة أو لا يكون”، وهو ما تُسجله الكتابات المعمقة في واقع الحياة و في أروقة الوجودية.