الإبداعُ الُّلغويُّ بَيْنَ الشِفاهيّةِ والكِتابيّةِ


مجيب الرحمن الوصابي
الإبْداعُ في استخدامِ اللًغة هو التعامل مع معطىً وجوديٍّ بحساسيةٍ مُتميزةٍ، أي استخدام اللغة (الموجودة) بقواعدها ومعانيها وتراكيبها بشكل غيرِ مألوفٍ، أو متميز، لا يخرق تلك القواعد المنطقية وإنّما يضيفُ إليها … وعلينا التمييز بين نمطين من الإبداع اللغوي هما الشفاهي والكتابي … ولكلٍّ مميزاته وخصائصه وأدواته.
ولِأنّ اللغةَ في الأصلِ شفاهيةٌ في التواصل اليوميّ العاديّ وغير العاديّ، فلها مميزات وخصائص عولجت في البلاغة العربية بما عُرف في علم البيان في أوّل مباحثه بالفصاحة، وهي الطريقة التي يتسلل بها المتكلم إلى قلوب مستمعيه دون عيوب صوتية أو تعقيدات لفظية ومعنوية … وهنا أفضّل الحديث عن الإبداع الصوتي اللغوي، وهو أرقي أنواع الإبداع وأصله، وأسمّيه بالإبداع الطبيعي في مقابل الإبداع اللغوي الكتابي (الصناعي).
بلْ نشهدُ عودة من جديدٍ لما بات يعرف (الشفاهية الجديدة) … ونلاحظ أنّ الإبداعَ الكتابي بدأ ينحسرُ، ويعود تدريجيًا إلى (النخبوية) كما بدأ … الأمر الذي اضطر فيه كثير من المبدعين إلى مواجهة الجمهور بالصوت والصورة، لتحقيق الاتصال الّلغوي الفعال الذي هو أساس التفاعل البشري، يبدأ الإبداع اللغوي مع الطفل في سنواته الأولى عندما ينطق كلماته الأولى التي تُحدِث أثرها، وتزدهر في صوت منشد أو قارئ للقرآن، أو مطرب، للأثر المنشود والتواصل الفعّال، رغم أن نُطق الطفل (بابا … ماما) ليس بالجديد أو صوت المنشد أو المغني … فقط لأنهم ينتجون المعاني والأحاسيس، ويجدّدونها رغم تكرارها … وهذا الشكل الأول للإبداع اللغوي، أي استخدام اللغة وأصواتها بإتقان وتميز بمصاحبة لغة الجسد والتعبيرات الوجهية والإيماءات، ويمكن تطوير مفهوم الفصاحة البلاغية لتشمل اللهجات وجميع اللغات.
بعْدَ هذا المستوى من الإبداع اللغوي الطبيعي المتمثلُ بالاتصال الشفاهي، وخصائصه المتمثلة بالأصالة والطلاقة والمرونة والحساسية في حلِّ المشكلات؛ يمكننا الحديث عن استخدام اللغة بشكل مبتكر (الاختراع).
يتمُّ التمييزُ عادةً بين نوعين من الإبداع اللغوي: النثر والشعر في الثقافة العربية بمعايير جمالية عادة تطلق عليها مصطلحات (الإنشائية، الأدبية / الشعرية)، لكن أعود للتمييز بين نوعين في ضوء النظرية الشفاهية أو أسلوبين، يعتمد التفريق بين المنتج الإبداعي اللغوي الذي أَنتج (ليسمع) وذلك الذي أُنتج (لنقرأه)…. مع تفوق للإبداع الشفاهي اللغوي على الكتابي … فكل إبداع لغويّ شفهيّ يمكننا تمثّله جماليًا مكتوبًا، وإن ذهبت بعض خصائصه التواصلية … لكن المنتجات اللغوية الكتابية تسجل فشلًا عندما يتم تلقيها شفاهيًا، خذ مثلًا قراءة الأديب لقصة أو لجزء من رواية … أو قراءة الأستاذ للمحاضرة من الورقة.
مِنَ الجميلِ أنْ يستعيرَ الإبداعُ اللغوي الكتابي بعض خصائص الإبداع الشفاهي، ويتمثله خلال الكتابة كما فعل جبران والعقاد والرافعي، لكن لا يستحسن ويُستساغ أن يتمثل الإبداع الشفاهي خصائص الإبداع اللغوي الكتابي … خذ مثلًا قصيدة النثر التي تفشل في تحقيق التواصل الفعال إذا (أُلقيت على المسامع) حيث تعتمد على العمق والرمز والكثافة.