الأدب والشعر

صيام المشافي

يعقوب السعيدى

يعقوب السعيدى

هذا رمضاني الأوَّل الَّذي أعيشه بين صخب المستشفيات وأنين المرضى، الحياة هنا مُختلفة تماماً والأعين مُمتلئة بالأحاديث الَّتي تفوح منها روائح المعاناة. ولكل فردٍ هنا قصَّته الخاصَّة والمُتخمة بالمرارة، والَّتي قد تختلف ظاهريَّاً إلَّا أن مضمونها واحد. هُنا أبٌ ينام التعب بين جفنيه وهو يرقب فلذة كبده يصارع المرض بقلَّة حيلة، وأمٌ غارقة بأساها، مفجوعة بصغيرها الَّذي انهكه المرض، هُنا صغارٌ لم يفهموا الحياة بعد لكنَّهم قرأوا اسوأ صفحةٍ فيها، وكبارٌ اطفأ المرض فيهم ماتبقَّى من ضوء الحياة. العجز هُنا وقِلَّة الحيلة يلتحفان النَّاس، والحناجر مخنوقةٌ بأحاديثٍ داميةٍ ودامعة، هُنا صواعق الحُزن والألم تضرب أصقاع الأرواح وتشل حركة الحناجِر إلَّا من آهات الوجع، والنَّاس غارقة بالغُصص ومُلتهبة بالمواجع وشظَف العيش، وتحت سقف الرَّجاء يصلِّي جيش من القلوب، متوضِّئين بدموع بؤسهم وعجزهم.

هُنا تختلط روائح الأدوية بأنَّات المرضى ودعوات المرافقين، فيسُسكِر خليطها الأرواح حتَّى البُكاء، زُجاجات الدواء هُنا مُمتلئة بالقلوب المكسورة وبنظرات الرَّجاء، وأسفلها يرقد الدواء.

دوِّي الصَّمت هُنت يهُز أروقة المشفى، وصداه يكاد يخلع أبواب

القلوب، والكُل يخوض معركة دامية مع المرض؛ المريض يحارب، والمرافق يحارب، والطبيب يحارب، الكل يُحارب لإشعال فتيل الحياة في الأرواح، هُنا الجبهة الأسمى، وساحَة المعركة الخالية من روائح البارود وقُبح السَّاسة ودناءة الحُكَّام، الأيادي هُنا مُدجَّجة بالأدوية وبالدعوات، تناضل لتحرير الأبدان والأرواح من سجون المرض وغياهب الأسقام، شتَّان بين من يخوض معركة ليَقتُل بسلاحه وبين من يخوض معركة ليُحيي بسلاحه، وشتَّان بين أيادٍ أصابعها على زناد الموت وبين أيادٍ أصابعها على زناد الحياة!

 

صالة الطوارئ هُنا مخنوقة بأوجاع المرضى وبشهقاتهم المبحوحة، وكُل أركانها تنتحِب تألُّماً لآلام المرضى، ترتَعش مع ارتعاشة أجسادهم، وتئن مع أنينهم، وتجثو على أقدامها من بؤس حالهم وقِلَّة ذات اليد، هُنا صوت القلوب المكسورة يفوق بمرَّات عديدَة صوت كَسر زُجاجات الدواء، تُكسر زُجاجة الدواء مرَّة وتبقى القلوب تُكسر كُل ثانية حتَّى يشفى مريضها.

 

كُل شيءٍ هُنا مُختلف، والحياة مُختلفة تماماً عن الحياة في الخارج؛ إذ أن الهم هُنا واحد والغاية واحدة والهدف واحد، الكُل يعمل لغاية واحدة؛ ليشفى المريض فقط! تتقلَّص كُل الأماني هنا وتنحصر في زُجاجة واحدة، زُجاجة الشِّفاء.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى