مذكرات خريج


يعقوب السعيدى
على إثر وقع خطوات أقدامنا لأوَّل مرَّة على عتبة هذه الكلية، تشكَّلت أجمل مقطوعة موسيقى تضارع روعة أجمل مقطوعات “بيتهوفن”، على إثر وقع خطواتنا الأولى على عتبة هذه الكلية ذبحنا مخاوفنا وشويناها على مواقد العلم والمعرفة.
ونحن نجتاز بوابة الكلية الرئيسية للمرَّة الأولى في حياتنا، كان يراود كل واحد منا شعور غريب، هذا الشعور أصعب من أن يحكى أو من أن يفهم، إذ أنه كان مزيجاً من الرغبة والخوف، من الإرادة والتردد. وبأقدام يحملها الطموح وترشدها بوصلة الرغبة سار كل واحد منا في أروقة الكلية وروحه تقطر شغفاً من شدَّة الحماس، وفي مكتب التسجيل قلَّب كل واحد منا قائمة التخصصات بأصابع روحه وهو يفتش عن تخصص يلائم أهدافه ويساعده في تحقيق طموحاته.. وبعدها يغادر المكتب وهو يرتل اسم تخصصه في محاريب عقله ومنابر قلبه، بينما يتجول في أروقة الكلية ووجهه مليء بالتساؤلات حول كل شيء، حول أوقات الدوام، وقاعات المحاضرات، ومدرسي المواد، و… وفي هذا المكان الخالي من الوجوه المألوفة لارفيق له سوى غرابته!
من هنا كانت بداية الرحلة ومستهل الحكاية.
هذه المقاعد النائمة على جنبات الممرات تشهد كيف تلاشَت حواجِز الرهبة بين الغرباء، وكيف تحوَّل الغُرباء إلى أصدقاء مقربين، هذه المقاعد تحفظ جيداً كم كلمةً قلناها ونحن على ظهرها، تعلم كم مرة جلسنا عليها بمفردنا وكم مرَّةً جلسنا عليها برفقة الأصدقاء…
هذه القاعات تتذكرنا ونتذكرها بكل تفاصيلها ومحتوياتها،تتذكر ملامحنا، نبرات أصواتنا، صوت ضحكاتنا، نقاشاتنا مع الدكاترة ونقاشاتنا مع الزملاء… صفحات الملازم تعرف كم مرَّةً رمشت فيها أعيننا ونحن نقرأها، وتشهد كم ليلةً قضيناها بين خوف وقلق بسبب بحث متعب، بسبب امتحان صعب، بسبب سمنارات واختبارات متتالية… كل شيء هنا يعرفنا ونعرفه، وأسوأ ماعرفناه فيها حين كنا نغادر بوابة الجامعة للمرَّة الأخيرة كانت السماء تمطر حزناً ووجعاً ونحن نرتجف من صقيع الوداع، حينها انفجرت قلوبنا كمستودع بارود، وتهشَّمت كلوحٍ زجاجي انتهى به المطاف مفتَّتاً تحت صخرة عملاقة، أحسسنا بأرواحنا تحترق من الحسرة ونحن نذبح على عتبة الفُراق.
في طرف عين مضَت وانتهت أعوام دراستنا الجامعية، بحلوها ومرها، براحتها وعذاباتها، بسمناراتها، باختباراتها، بضجيج الزملاء المتداخل مع صوت الدكتور وهو يشرح المحاضرة…مرت هذه السنوات وانبجست من بين يدي أيَّامها طلائع الحلم الجميل وبسمات الغَد المشرق والوضَّاء. وهانحن اليوم نقف على منصَّة النَّجاح، نعانق حلمنا المنشود بأذرُع قلوبنا، لكن الحكاية لم تنتهي بعد؛ هنالك سطور في ذواتنا مازلنا بحاجة لأن نكتبها حتَّى يكتمل المشهد وتتَّضح الحكاية…