Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
الأدب والشعر

عادات تراثية منسية

شريفة زرزور

شريفة زرزور

كالعادة أجرجر أقدامي من قلب الماضي ثم لا أفوت فرصةً للولوج إلى أحضانه الملتهبة ثانية ، كلما سحبني العمر بعيداً أعود أدراجي مهرولةً أتجاذب أطراف الطفولة و الصبا فلا أتوانى عن استرجاع عادةً عهدتها أو ذكر تقليد شهدته أو سرد حديثٍ عن طقس عشت روعة تفاصيله في أرجاء قريتي الأثيرة .

كراعية أغنام إن شرد منها قطيعها أعادته جاهدة لمرتعه تنعم بمتعة مراقبته عن كثب . فلا يمكن إحياء طقوس سلق القمح في جعيلة منصوبة في قلب فلاة ممتدة أمام بيوت الحارة تحت سقف سواد سماء مضاء بالنجوم يحرسه قمر شهر آب المتوهج أن تمر بشكل عابر كأي حدث مخطوف من حضن الذاكرة لا يحتفى به أو يُصال و يجال في ربوعه و بين أروقة تفاصيله ، مشهد تراثي قديم له أثرٌ شذي يشبه العطر على خد حسناء ، يترك في النفس عبقاً فواحاً و يبلل الروح طراوة و حلاوة و يزف القلب برقة لأيام خوالي .

فيا ترى هل ستسعفني كلماتي بتواضعها و هل سأعثر على تعابير لائقة تصف شعور أكنه لمتعة هذا التراث القروي العريق ؟

موسم سنوي سخي يقام في فلك حراك رمزي مترامية أطرفه و يستهل بحجز أهل الحارة دور اً لاستعارة جعيلة القرية الوحيدة ليسلق موسم القمح المحصود بشق الأنفس و كد الفلاحين منذ صباحات شهر أيار الندية .

تبدأ هذه الطقوس وقت الغروب لاستهلال برودة ليالي الصيف اللطيفة ، حيث يُدعى الجار و القريب و الصديق لتقديم المحبة و الإلفة و عرابين التعاون و وئام الإخاء بهذه المأدبة المجيدة فيبدأ الشباب بهمة عالية و نشاط بتجميع الحطب و العيدان لإشعالها تحت موقد الجعيلة المتخمة بحبات قمح مغمور بالمياه يتناوبون على تحريكه بكفكير طويل بين فينة و أخرى خوفاً من التصاق حبات القمح المدللة بأسفل الجعيلة و لتأخذ كل قمحة نصيبها العادل من الإستواء

تتحلق الصبايا بغنج و دلال مع تشجيع الكبار و حماس الصغار و لعبهم و تهييصهم حول الموقد ملتهب الألسنة الذي يشعل الجميع شوقاً للسهر و التسامر و الضحك و الاستمتاع بالإنصات للحكايا و القصص التي ترويها العجائز من وحي الخيال و الأساطير أو تسردها من صميم ذاكرتهم الصلبة كحجر صوان ، و تتعالى بعض الحناجر العذبة بالأغاني و المواويل و تصدح في الأجواء العتابا و الأهازيج الشعبية الموروثة ليترنح الشباب و الصبايا برقصات و دبكات يخلِّدون الساعة و يسَّطرون وقتاً رائعاً بانتظار موعد انتهاء السليقة و استواء القمح يتخلل هذا و ذاك تقديم كل أنواع الضيافة من مشروبات و مأكولات و حلويات تقليدية صنعتها النسوة بكثير من الحب و فائق من المهارة و الذوق . ليلة متعبة لكنها مرحة تُعَّمَر بكل بهجة تخطر على البال لإضفاء الفرح على محياها السعيد الذي يمتد برياحة لساعات الصباح الأولى لتعاد بعد سنة كاملة لتحضير مؤونة الشتاء القادم من الطحين و البرغل و السميد و الكشك .

ترقب و انتظار لاعلان لحظة الانتهاء اعلان نضج القمحة يستقبلنها النسوة بالزغاريد و كأنها لحظة قدوم مولود ذكر جديد للقبيلة أو نبأ عودة غائب من السفر بعد طول سنين ، و بلهفة كبرى كهيبة انتصار عظمى يصطف الشباب و الفتيات مع قللهم و قففهم و قدورهم لينقلوا القمح الناضج بحب و امتنان على رؤوسهم و ينشروه على السطوح المشطوفة بعناية و المكشوفة لشمس آب اللاسعة لتستقبل الموسم الناضج و تلعب دورها باحترافية في تنشيفه و تجفيفه و تهيئته للدرش و الطحن و الدرس معلنة نتائج مبشرة لمؤن شتاء قادم وفيرة ، رحم الله عادات رسمت على شفاه أيامنا ضحكة و متعة و أحيا الله ذكرى القمح و الخبز و العيش الكريم .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى