الثقافة في الزمن الحاليّ

مشهديّةٌ قوامُها الثقافةُ أكبرُ من الزمن الحاليّ وأكثرُ اتّساعًا. للزمن الحاليّ ثقافتُه، وهو ثقافةٌ في حدّ ذاته، ولنا عَودٌ إلى هذا. دعونا الآن في مفهوم الثقافة انطلاقًا.
الثقافةُ منظومةٌ حياتيّة حركيّة قوامها مجموعةُ معتقدات وسلوكات تعبّر عنها وتعيشها جماعاتٌ بشريّة تجمع بينها وحدةُ المكان والزمان، وتميّزها عن غيرها من خلال زخارف وعناصر كالفنون والأعراف، العادات والتقاليد، القيم الاجتماعيّة والمبادئ الفكريّة وغيرها.
تشكّل الثقافة الخاصّة حلقةً موحّدة تدخلُ في المنظومة المعرفيّة الكبيرة التي تشملُ الإنسانَ وتفاعله في هذا الوجود، وتحدّد مسارَه الشخصيّ والجماعيّ على السواء.
إنْ نقُلْ ثقافة، نرُحْ حكمًا إلى عالم المعرفةِ الواسع، اللامحدود. بتعبيرٍ أدقّ، تطال الثقافةُ موضوعاتيًّا القضايا المعاكسة لمفهومها السائد. نعتقد أنّ الجهلَ ضدُّ الثقافة؟ للجهلِ ثقافتُه، مبدأً وعيشًا. وهو في حدّ ذاته يشكّلُ مادّةً أدبيّة وفنيّة غنيّة الدلالات، طبعًا يقرأها العارفون دون الجهلة!
في عَودٍ إلى الزمن الحاليّ، تعالوا نقرأ المشهدَ الثقافيّ من زاويةِ أهل القلم والإبداع.
الزمن الحاليّ هو زمن العولمة، بات فيه العالم بأسره قريةً كونيّة، مرتبطة بعضها ببعض، عبرَ شبكة التواصل العالميّ: الإنترنت. ليس بعد اليوم بُعدٌ حغرافيّ أو زمنيّ. كلٌّ موصولٌ بالجميع وبكلّ شيء. هذه منظومةٌ تفرضُ ثقافتَها الخاصّة، أو العامّة قلْ على الحياة البشريّة قاطبةً. مجتمعيًّا، صار الفردُ مرتبطًا بمحيطه وفقَ معاييرَ تواصليّة مباشرة عبر وسائل التواصل السريعة التي أغنتَ الجماعات عن تنقّلاتٍ أو استنزاف وقتٍ ومصاريف، ما بدّلَ أساليب العيش والعلاقات وفقها…
في هذا السياق، نضعُ بحثنا في الأدب والفكر والفنّ. إن قيلَ يومًا: “لا خفيٌّ إلاّ سيظهر ويُعلم”، فالعالم الرقميُّ الرابط الدنيا بخارجها حقّقَ القولةَ بفعل الواقع. اليوم الفكرُ كلُّه مبسوطٌ على العالم. “اللي بقلبك ع راس لسانك”، أو “اللي براسك ع راس لسانك”. بتعبيرٍ آخر، هل كلّ ما في القلب أو يحدّه الرأس جديرٌ بأن يُعلَن؟ هذه ثقافةٌ أيضًا!
في الأدب، في النتاج الأدبيّ، كلّ ماسكٍ قلمًا يكتب. وفي وسائل التواصل، هو نفسُه الناشر. لا تنقية ولا من ينتقي! من يقولُ إنّ هذا أديب وذاكَ موهوب؟ من يصنّفُ الشعرَ والجمال النصيّ؟ هي ثقافةُ “الأمرُ الواقع الأدبيّ”! ويعتبرُ بعضُ الناشرين في الأدب والشعر أنفسَهم أدباءَ وشعراء، لأنّهم وجدوا من يقول لهم آه، جميل، أو متى يحصون عددَ اللايكات وبعضَ التعليقات المسايرة…
في تاريخ الأدب، برزت أسماء لا تزالُ تضيء حتى اليوم. لكنّ محاولين كثرًا دوّنوا آثارًا لم تصلْ حدَّ المآثر… هلاّ اعتبرْنا؟!
النتاجُ المنشور أو المطبوع، لا يشكّل إرثًا أدبيًّا بالمعنى المعروف. هو فعلٌ ثقافيّ دلالاتُه تعرّف المشهدَ الفكريّ ويؤتي نتائج وتداعيات… وأمثولات!
الثقافةُ إلى كونها مجموعة عناصر وزخارف لجماعةٍ بشريّة تحدّدها، هي وعيٌ فرديّ وجماعيّ لمنظومة المعرفة الشاملة الخاصّة بكلّ مسار، وتمييزٌ فاعل لكلّ عنصرٍ فيها وتأثيره في الحياة قيَميًّا ومشاعريًّا…
الزمن الحاليّ مفتوح على كلّ الثقافات، الجميلة منها والفاقدة القيم… لكن أيضًا على ثقافة الخروج من الدون إلى الملء الإنسانيّ الذي يتوق إليه كلّنا…!!!