الأدب والشعر

التعب المشترك 

مروة بصير

مروة بصير

“بينما تستقر غيوم الغبار نجتمع معًا في ساحة المزرعة ترتعش ركبتانا فنتهاوى ونترنح، ولكن ذلك لم يَخْلُ أبدًا من المرح. تجد أيادينا وسيقاننا مخدوشة، وفتات القش يملأ رؤوسنا ويستقر بين أصابع أيادينا وأقدامنا، أما فتحات أنفنا رجالا ونساءً وأطفالاً فلم تكن رمادية اللون، بل سوداء، يملؤها التراب. هكذا جلسنا بالخارج، تحت شمس الأصيل، نستمتع بنكهة ذلك التعب المشترك. تجد بعضنا يتحدث، وبعضنا يصمت، بعضنا يجلس على الدكة أو فوق مقبض العربة، وبعضنا على أرض الحقل حيث العشب الباهت. تجمَّع الجيران كافةً، كبارا وصغارًا، في تناغم وانسجام على أوتار ذلك التعب المشترك. فقد جَمَعَتنا ووحدتنا سحابة من التعب الأثيري، إلى أن تصل الشحنة التالية.”

 

المشهد السابق حكى عنه الكاتب بيتر هاندكة في مقالته عن التعب، حيث وصف ما أسماه بالتعب المشترك بعد يوم عمل طويل وشاق في المزرعة حين كان طفلاً صغيراً في قريته بالنمسا..

حيث كان أن يجتمع كل الجيران في موسم حصاد القمح لجزه، كل يوم في مزرعة ما حتى الإنتهاء من جميع المزارع المجاورة،

 

وقد أطربتني هذه التسمية، التعب المشترك، والذي لا بد جاء من العمل المشترك، العمل الجماعي المنظم والذي يؤدي إلى نتائج باهرة، ولأن النتائج مُرضية يكون التعب مُرضي وذا نكهة، نكهة الإنجاز وإتمام العمل.

 

وصف بيتر في مقالته تسلسل الأعمال، وتنظيم وقوفهم في خط “الإنتاج” كلٌ كان ملتزماً بمهتمه، رجالاً نساءً وأطفالا.

لا أحد يغادر موقعه ولا أحد يغفل عن دوره. فللعمل الجماعي ميزة تخفيف العبء عن الواحد، وبالتالي تتحسن الكفاءة الإنتاجية كثيراً إذ يتقاسمون الجهد، ولا ننسى ميزة العمل الجماعي الأخرى في تسريع العملية الإنتاجية أياً كانت.

 

ولابد أنه قد كان لهم قائد فذ -ولو لم يعينه هاندكة في مقالته- له القدرة على اكتشاف مواطن القوة لدى كل شخص ولديه القدرة على تخطيط العمل وتوزيع المهام، فمن أسرار نجاح العمل الجماعي هو وجود قائد كهذا.

 

ثم يلتقون آخر النهار، كُل الجيران، يتسامرون والتعب يلفهم، ويوحد بينهم، إن من أسمى وأجل فوائد العمل الجماعي هو توطيد العلاقات الإجتماعية. فهو أي العمل الجماعي يخلق لدى الأفراد روحاً ذات هدف واحد، توحدهم وتخفز لديهم العطاء.

 

اتأمل حال الطفل بيتر، رغم تعبه، تخلد هذه الصورة الصافية في ذهنه، وتتولد لديه حكمة في سنٍ مبكرة للغاية، وهو يتأمل تعاون الجميع، وتفانيهم، وإخلاصهم لهذا الهدف المشترك، ولعله في داخل نفسه كان يشعر بلذة هذا التعب وأنه تعب متساوي لدى الجميع، وأنه تعب مستحق لأن يحكي عنه بعد أن تجاوز عمر الستين.

 

إذاً لا غرابة في أن الإسلام قد حث على العمل الجماعي، وجعله أكثر بركة، فبقليل من التدبر في آيات الكتاب الحكيم سنجده قد غذى روح الجماعة فينا بتوجيهاته على التعاون والشورى والوفاق ( وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ) (قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ) وفي السنة كذلك نجد مثلاً قول النبي صلى الله عليه وسلم

(وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ)

وقوله (عَلَيْكُمْ بِالجَمَاعَةِ).. جميعها تدل وتحث على العمل الجماعي وما فيه من بركة وسرعة إنجاز، فهلا تأسينا!

 

يفتقد هاندكة ، مثل هذا التعب في زماننا الحاضر، ويقول (فلنخرج إلى الشارع، بين الناس، لنرى ما إذا كان بعض التعب المشترك ينتظرنا، وما الذي يمكن أن يُعلمنا إياه).

 

وأنا أيضاً أحثكم ونفسي، أن نخرج إلى الشارع، أن نشمر عن سواعدنا ونتعاون، وإن غابت صور العمل الجماعي القديمة، فإن كل شخص اليوم في وظيفته ومهمته (كلكم راع) إن هو أحسن فيها وأداها حق التأدية، هو يساهم في عمل جماعي هدفه النهضة بالوطن.

 

مروة بصير

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى