سرديّة الذّات

سرديّة الذّات….
نسيت أن أكتب عنها يوما ووجدت أنّ مرادي يُوصل بها، وقد لا أخفي ظاهرا منها ولا أرابي في الكشف عن باطنها… تلك هي الذّات التي تسبح داخلك وتتشكّل منك هي التي تجعلك تحبّ وتكره، ترغب وتعفّ، تبحث وتسكن، تغضب وتهدأ،….
في أيامي بحثت عنها وأردت أن أطوّعها لكنّي ما لبثت أن رغبت عن ذلك الأمر وسرت في ثناياها أسبر أغوارها المفترضة وأحاول منها فهما وعلما، بل وصفا يقودني إلى ماتُخفيه….
الأمــــــل البعيــــد….
لأنّ الأمل سلاح عبدة اللّه ولأنّ يقينهم ثابت يجعلونه بندقيّتهم المتواضعة في الحياة أمام قوات الجنرالات العظيمة من مختلف الجبهات نقول مالا نقول ….
حوار:
_”نبحث يا ابني عن شيء من الحياة فما عدنا نقوى على مجاراتها بسلاحنا التقليدي….”
_” مالك يا أمّي تصرّين على المستهلك والتّقليد، هل لأنّ أغنية “كل رياح العالم لن تقتلعني من جذوري” باتت رائجة اليوم كالموضة…”
_” يا ابني بتنا اليوم والله نسمعها أكثر من أيّ شيء، وكأنّهم يقولون لنا كلاما ملغّما بالمعاني، يقولون لم يبق لكم من جذوركم سوى كلمة الانتماء هذه التي يبعثها الضمير المتصل أما أنتم في الحقيقة صرتم لنا فلا أحد يستطيع أن ينفلت من عقالٍ صنعناه هو عُقال آلاتنا وصناعاتنا و…. التي تُلغي حاجتكم لـ”جذوركم”…. ”
_” بلى يا أمّي باتت تلك موضة صارخة تصرخ اليوم كما تصرخ كل الموضات الأخرى ويالا سخرية القدر بات أرباب العولمة يذكّروننا بوسائلهم الإعلاميّة بجذورنا وتقاليدنا ونحن نظنّ أنّنا نحارب العولمة ولا تفتأ تلك الظاهرة تُخمد شيئا فشيئا كما تُخمد النّار الثائرة…. لأنّ الموضة ماتلبث أن تنتهي ويأتي بديل عنها، أمّا ما يسكن قلبك فلابدّ أن يظلْ ثابتا إلى الأبد…. أليس كذلك يا أمّي؟ ”
_” بلى يا ولدي فالأمل البعيد مازال قريبا بعيدا…. ”
الخبـــــز المتعفّــــــن…
لأنّ الخبز نكهة الحياة فإنّ خبزنا تعفّن يوم قضم منه جرذ مدينة ما كان قد تسلّل إلى بيدرنا حيث تُخزن المؤن… أقص عليكم قصّتي القصيرة جدّا نثرا:
“بيدرنا متواضع لأنّنا أهل ثقة نؤمن ونؤتمن فكان فسيحا مشرعا على كلّ الجبهات فلم نكن نترصّد عدوّا فكلّنا اخوة عند باب حدود بيدرنا…. ولأنّ النائم يُغدر فقد غدرنا من هو أقلّ منّا شرفا وسمعة وجاها وكبرا…. غدرنا ابن بلدة لا نعرفها ولم نسمع عنها عدى أنّنا سمعنا أنّهم من أحفاد المحاربين الأوائل الذين قتلهم جدّنا الدّاخل… رواية متواضعة تخفي ألما قاتلا… قضم الجزذ شيئا من خبزنا ومالبث أن صار يأكلها كلّها شيئا فشيئا حتى أضحى جيشا عظيما يحفر أرضنا ويأكل ما يوجد في البيدر الحقيقي… وما لبثنا أن صرنا غزاة في بلدنا نكرة لا نعرف وضاع الشرف والسمعة والجاه والكبر الذي كنّا نظنّ أنّنا به أناس وأهل بيدر…. فصار خبزنا عفنا يقرف منه بعضنا ممن بقي لهم شيء من الجاه والسمعة ويأكله أضعفنا حيلة…. ”
مازال الخبز عفَنًا حتى اليوم…
الكبـــــــر الحقيقـــــي…
مازلت أظنّ أنّ جدي كان محاربا شجاعا وأنّه أصيل قرية من قرى لبنان أظنّه هاجر مع من هاجر من الفينيقين زمن صراع عليسة مع بيجماليون، ولأنّي أحبّ لبنان الذي أظنّه يشبهني أنسب جدّي إليه وأجعله قبطانا من قباطنة سفنه، ولأنّي كذلك سافرت البارحة إليها، ألا يسافر امرؤ إلى حيث يريد أن يسافر في ليلة ثم يعود….ذلك ما كتب في كتبنا وبعض الألواح… وإنّنا لنصدّقه،أروي حكايتي كبرا وفلسفة وتاريخا وحبّا:
“حديث النسب والعرق الأول والأصل:
يروي بعضهم ممن يرَون أنهم ثقات الثقات من أنساب الفرّاء وأبي عمرو بن العلاء وغيرهما أنّ الجذور تؤصّلنا كما تؤصّل الشّجرة بعروقها وجذورها وأنّنا متى فقدنا جذرا من الجذور أو تغافلنا عنها صرنا عُراةً والعياذ بالله من كلّ هويّة والحال كذلك والله فمازلنا نتخبّط في قبائلنا حتّى صارت العشيرة سمت الحقّ ولا بديل عنها، وممّا يرويه ثقاتنا أنّنا يجب أن نتمسّك بهويتنا وأن نبحث في جذورنا والظاهر في ذلك حبّ العشيرة والباطن “موضة” ورياء بأنّهم يعرفون مالا نعرف….
انتهى حديث النّسب والعرق الراقي… ”
” حديث التّاريخ والفلسفة:
إنّ حبّنا لله لا يضاهيه حبٌّ وإنّ ثقتنا به لا تضاهيها ثقة، وإنّنا عندما وُلدنا غُرست فينا محبّة كلّ البشر عدى بعض الطبائع التي تكوّن من اختلاط أخلاط نفس النّفس التي لا توافق نفسنا فإنّنا نتحاشاها وننساها حبّا في اللّه ولأنّنا أحيانا نذهب مذهب الميتافيزيقيين فإنّنا نقول ما نقول، ولأنّ حبّ الحقيقة شمس يبغيها كلّ بشر وإن كان لا يعرف داخلها فإنّنا لا نطمح إلى أن نصلها سوى تلك التي يكشفها لنا الله متى أراد، ولأنّني بنت عليسة الخرافية فإنّي سافرت إليها في ليلة شتوية وصار حديث بيننا على ربوة من ربى قرى لبنان فقلنا في تاريخنا بعد أن التقينا وبدأت الحديث :
_”أنا لا أعرف أمّتك فهل أنت من جبلنا… ”
_” أنا لست من أمّة واحدة إذا أردْتِ وإذا أردتُ فأنا من أمّة العرب… ”
_” لكنّك تقولين أنّك من هناك… ”
_” نعم أنا من هناك لكنّكم أنتم لم تكونوا آخر الأمم التي نزلتنا… “_” ماظننت من خلفتهم يتراخون ويتركون الأرض للغزاة… ”
_” الحقيقة أنّ الأيام دول وأنت لم تري من الأمور شيئا، هل تعرفين لبنان… ”
_” لا، لا أعرفها أنا أعرف الجبل… ”
_” إذن فإن لبنان تشبه الأرض التي غزوتها يوما… ”
_” ماذا تقصدين؟”
_” أظنّ أنّ رياح لعنة هبّت يوم قدمتم إلى بلدنا و قد استيقظت تلك الموجة هذه الأيام أكثر ممّا قبل”.
_” هل صدقا ما تقولين؟ ما ظننت هذا يحدث؟ ”
_” حدث في تلك الردهة من الزّمن مالا تتوقّعينه، إذ صرنا أمّة كريمة وكوّنّا دولا بعد دولة قرطاج التي خلّفت مؤسّسيها الأوائل، وبات تاريخنا عامرا بالانتماء إلى أمّة، وصرنا بناة حضارة زرعتِ أوّل لبناتها حين ألفّت بين أرضين عرقين أمتين، وأتى من أتى وألّف ما لم يؤلّفه أحد ومالم يستطع أحد تأليفه، وتنوّعت أعراقنا وجمعتنا أمّة