الراصــــــد… فضل الله رابح


هاشم عقيل
( إلـهامات ) شتـاء كُردفان وإحساس بقايــا الذكريـــات ..
لحظات الشتــــاء هذه الأيـام ونسيماتـها التى تعبـر كالأريج كأن الأقدار هيأتــها للتـَّذُكر والسِحر لنكتشف أنها تجردنا من كل شئ إلا من إحساس ذاكرتنـا وذكرياتنـا مع شتــاء كردفان الجميـــل فتعود فينـا وبنا للوراء ولربما تقيـــدنا تلك الذكريات الشتويـــة العابــــرة بشراسـة رغم برائتـها وهى تستدعى إحساسنا بذلك الزمان لنتأمل الزمان وننقب الأحداث
ومن ثم تصدر إشارات العقل أوامره والذكرى محملـة بحصاد الشتاء في كردفان وأشجار السدر ( النبـق ) ونحن وقتها ما نزال صغاراً نتحلق حولها وهي تجود علينا بثمارها بحب ونحن نضربها لتساقط علينا النبق ولا نكترث الي لسعات أشواكها وكلما تدلت تلك الشجرة نحو الأرض بثمارها إرتفعت وسمت بقيمتـها وهي لا تمل حوارنا معها صباح كل يــوم ومساءه ومثلها شجرة الهشاب التي تنتج الصمغ العربي والتي كلما قطفنـا ثمارها ونزعنا أصماغها تبسمت في وجهنا من جديــد وهي تتدفق ذهبـها وتروي بـ ( ريالـــة ) أصماغـها الأرض أحيانـاً .
ومن ذكريات شتاء كردفان الذى يعقب فصل الخريـف وفيـــه موسم الحصاد إذ أنه حتى نباتات الخريف التي أثمرت وتم حصادها عند حلول الشتــاء تجدد حياتــها وطموحها فى الحيــاة من جديـــد .. حيث نجد محاصيل اللوبيا والكركدي والبطيخ والتبش والدخن تبــدأ وهي تبحر بخيالها وتتخصب بعد ان يُثـري الشتاء حياتـها بهواء عليــل ونسيـم بارد ورقيـق ويتحول شعورها الي إخضرار من جديــد ( بتِشق مرة أخري ) وتنتج ثماراً يسمي محليـــاً بـ ( الكوشيب) وهي تتجدد وتحيا تحت نسمات ندي الشتــاء وضبابـه العذب الذي يلتــف حول النباتات وأشعة مصابيح نجوم وقمر ليالى الشتاء الملهم تثري وتكمل المشهد
وفي فصل الشتاء بكردفان عادة ما تقِل المشاكل والاحتكاكات بين المزارعين والرعاة حيث يتم جمع كافـة المحاصيل وبالتالي تصبح المساحات الكانت مزروعة مباحـــة للرعـاة وفي تلك الأثناء يهدي المزارع بقيـــة أعلاف زراعتـــه للراعي بكل رضا بما يسمي محليــاً بـ ( الطليـــق) وفي السابق كانت تكون هناك بواقي ميـاه التبلدي الباردة والزكيــة لكنها اليـــوم إنعدمت .. والشتاء في دفاتـــر ذكرياتنا معه بكردفان إنـــه موسم للحصاد ودق الجُرُون ( دق العيش )
والمثل الشعبى يقول : فلان دقوه دق العيش .. ودق العيش يحدث في الشتاء إذ يتراص الرجال بطريقــة محددة وفي لوحة فنيـة بهيـــة بأشكال فردية وزوجية ويرفعون عيــدان المداقيـــق ويضربون العيش ضرباً مبرحاً وبإسلوب ورزم موسيقي مُنتظم ومُوحى ويتخلل ذلك أصوات من الرجال ولحن وغنـاء بغرض التشجيع ورفع الهمة وبعد يوم من الإنتهاء من عمليـــة دق العيش تأتى النساء لما يسمي بضرايــة العيش وهذا أيضاً محفل آخر تتخلله طقوس وعادات وتقاليـد إجتماعيـــة نسائيـة محكمة وملزمـــة منها اذا اعترضت الضرايات ( النساء اللاتى يقمن بنظافة العيش) إذا أعتضرن طريقك ليس أمامك سوي أن تفدى نفسك بمال أو ما يقابله بما يرضيهن وإذا تمسكن وأمرنك بأي شئ ما عليك إلا فعلـه وإلا سوف يقمن بهجائـــك بما لا تحب وإذا اعتديــــن عليك فسوف يكون الإعتداء مبرراً ومباحاً عرفيــاً ولا يعاقب عليه القانون ..
ومن ذكريات شتاء كردفان الملهم فيه تكثُر مناسبات الأفراح ومهرجانات الأعراس نسبة لان الناس بكونوا قد خرجوا من موسم الحصاد واوضاعهم الأقتصادية مريحة وكذلك فى الشتاء يقل الطلب علي الماء ومعلوم لديهم إن الشتاء موسماً للتلاقي بين أي شاب طموح كرس كل مافي قلبـــه من حب وما في جيبــه من مال لأجل أن يضعه نصب عيني فتاتـــه التي يحبـــها وهي وجدت فيه فارس أحلامها وأنيس مستقبلها ..
وفى مناسبات الأعراس تجد كبار القوم وسادة المجتمع يلبسون ثياب الشتاء الفخيمة الواقيـة من البرد والمصنوعة من الصوف ( الكبـــوت) والمستجلبـــة من دول ليبيا ومصر والمغرب وهم يتحلقون أمام شرفات المنازل والدواويــــن الكبيرة وأصوات الألعاب الشعبيــــة ( الحسيس ـ التويـــة والنطيـــط ـ الحراري والدلوكــة) تطرق مسامعهم وهم في ثرثاتـهم فريحون يغفون علي فواصلها ويتلقون من نغمات رسائل مناسبــات أفراح زيجات ابنائــهم أحاسيس ومشاعر بأنهم يعيشون في وطن فيه كل مقومات الحيـاة وفيــه مسار ونهج الحب الذي لا ينتهي ولا ينضب ويقيني أن الجيــل الحالي لو علم بنعيــم ذاك الماضي لماتــوا إحتراقاً من الحُزن وهم يعيشون حاضراً بلا قيمة .. كان الشتــاء ياتينا في كردفان وهو يُغلف حياتنا بظرف مخملي وكنا ننتظره من عام لآخر ليحتضن حياتنـا بمعطفه البارد حتى يربـــط على جذوع أشجار واقعنا الفرح والسعادة والذكريات التى تجعلنا نطوف وننطق بها اليـــوم عبر الحروف ونبـوح بذلك الماضي الجميـــل ونستدعي هذا الشعور بالرضا وننسجه أدبــاً حتي يُفرِقْ علينا تعاســـة وبؤس الحاضر القاتــــل ..