مقالات

من هم الغرباء ؟

حسن بن محمد منصور مخزم الدغريري

حسن بن محمد منصور مخزم الدغريري

بسم الله الرحمن الرحيم 

   يقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( بَدأ الإسلامُ غريبًا ، وسيعودُ غريبًا كما بدأ ، فطُوبِى للغرباءِ ) رواه مسلم في صحيحه ، وفي روايةٍ : ( قيل يا رسولَ اللهِ : مَن الغرباءُ؟ قال : الذين يَصلحون إذا فسد الناسُ ) رواه أبو عمرو الداني في السنن الواردة في الفتن ( ٢٥ / ١ ) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم ١٢٧٣ وفي لفظٍ آخرَ قال : ( هم الذين يُصلِحون ما أفسد الناسُ من سنتي ) رواه الترمذي في سننه وحسنه ؛ وفي رواية : ( طوبى لِلْغُرَباءِ ، قيل : و مَنِ الغُرَباء يا رسولَ اللهِ ؟ قال : ناسٌ صالِحُونَ قَلِيلٌ في ناسُِ سَوْءٍ كَثِيرٍ ، مَنْ يَعْصِيهِمْ أكثرُ مِمَّنْ يُطِيعُهُمْ ) رواه ابن المبارك في الزهد ( ١٩٠ / ٢ ) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم ١٦١٩ .

ومعنى الحديث : وجوب التمسك بالإسلام ظاهراً ، وباطناً ، عقيدةً ، وشريعةً ، وأخلاقاً ؛ وسلوكاً ؛ لأنَّه الدين الحق الذي يجب الايمان به واتباعه ؛ لقول الله تعالى : ( وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) ( آل عمران : ٨٥ ) وقال تعالى : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ) ( المائدة : ٣ ) وأنَّ من تمسك بكتاب الله عزَّ وجل ؛ وسنةَ نبيه محمد بن عبدالله صلوات الله وسلامه عليه بفهم السلف الصالح ؛ فإنَّه قد تمسك بهذا الدين العظيم ؛ وأنَّ المسلم إذا صبر على التمسك به كان له أجرُ خمسين من الصحابة رضوان الله عليهم ؛ قال صلى الله عليه وسلم : ( إِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامًا ، الصَّبْرُ فِيهِنَّ مِثْلُ الْقَبْضِ عَلَى الْجَمْرِ ، لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِكُمْ ) رواه الترمذي في سننه ، وزاد أبو داود في حديثه : ( قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنَّا أَوْ مِنْهُمْ ؟! قَالَ : بَلْ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ ) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد ( ٧ / ٢٨٢ ) ” وإسناده ضعيف ، ولكن له شواهدُ يرتقي بها ؛ وقال الترمذي : هذا حديثٌ حسنٌ غريب ” وفي رواية : ( إِنَّ مِنْ ورائِكُم زمانُ صبرٍ ، لِلْمُتَمَسِّكِ فيه أجرُ خمسينَ شهيدًا ) رواه الطبراني في المعجم الكبير ، وصححه الألباني في الصحيحة برقم ٤٩٤ .

ونأخذ من هذا الحديث الفوائد التالية :

١- أنَّ الغريب في أول الإسلام ؛ هو كالغريب في آخره ، فالمقصود بالغربة غربة التمسك بالدين الصحيح ؛ الذي أمر الله به في كتابه ، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ؛ وما كان عليه السلف الصالح عقيدةً ، وشريعةً ، وأخلاقاً وسلوكاً ؛ وقد جاء في البخاري حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أنَّه قال : ( كانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عَنِ الخَيْرِ ، وكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي ، فَقُلتُ : يا رَسولَ اللَّهِ ، إنَّا كُنَّا في جَاهِلِيَّةٍ وشَرٍّ ، فَجَاءَنَا اللَّهُ بهذا الخَيْرِ ، فَهلْ بَعْدَ هذا الخَيْرِ مِن شَرٍّ؟ قالَ : نَعَمْ ، قُلتُ : وهلْ بَعْدَ ذلكَ الشَّرِّ مِن خَيْرٍ؟ قالَ : نَعَمْ ، وفيهِ دَخَنٌ ، قُلتُ : وما دَخَنُهُ؟ قالَ : قَوْمٌ يَهْدُونَ بغيرِ هَدْيِي ، تَعْرِفُ منهمْ وتُنْكِرُ ، قُلتُ : فَهلْ بَعْدَ ذلكَ الخَيْرِ مِن شَرٍّ؟ قالَ : نَعَمْ ، دُعَاةٌ إلى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ ، مَن أَجَابَهُمْ إلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا ، قُلتُ : يا رَسولَ اللَّهِ ، صِفْهُمْ لَنَا؟ فَقالَ : هُمْ مِن جِلْدَتِنَا ، ويَتَكَلَّمُونَ بأَلْسِنَتِنَا ، قُلتُ : فَما تَأْمُرُنِي إنْ أَدْرَكَنِي ذلكَ؟ قالَ : تَلْزَمُ جَمَاعَةَ المُسْلِمِينَ ؛ وإمَامَهُمْ ، قُلتُ : فإنْ لَمْ يَكُنْ لهمْ جَمَاعَةٌ ولَا إمَامٌ؟ قالَ : فَاعْتَزِلْ تِلكَ الفِرَقَ كُلَّهَا ، ولو أَنْ تَعَضَّ بأَصْلِ شَجَرَةٍ حتَّى يُدْرِكَكَ المَوْتُ وأَنْتَ علَى ذلكَ ) .

٢- أنَّ الجزاء من جنس العمل ؛ فمن تمسك بهذا الدين الإسلامي صدقاً وعملاً جازاه الله بجنة عدنٍ خالداً فيها أبدا ؛ وقد قال الله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ) ( فصلت : ٣٠ ) وقال تعالى : ( الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَىٰ لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ ) ( الرعد : ٢٩ ) وفي حديث أبي سَعيدٍ الخُدريِّ رضي الله عنه : ( عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم : أنَّ رَجُلًا قال له : يا رسولَ اللهِ ، طوبى لِمَن رآك وآمَنَ بك ؛ قال : طوبى لِمَن رآني وآمَنَ بي ، ثمَّ طوبى ، ثمَّ طوبى ، ثمَّ طوبى لِمَن آمنَ بي ولم يَرَني ، قال له رجُلٌ : وما طُوبى؟ قال : شجَرةٌ في الجنَّةِ مَسيرةَ مئةِ عامٍ ، ثِيابُ أهلِ الجنَّةِ تخرُجُ مِن أكمامِها ) رواه أحمد في مسنده ؛ وحسنه الحافظ ابن حجر في الأمالي المطلقة رقم ٤٧ وكذا الألباني في صحيح الجامع برقم ٣٩١٨ وفي رواية : ( إنَّ في الجنةِ لشجرةً يسيرُ الراكبُ في ظلّها مائةَ عامٍ لا يقطعُها ، واقرأوا إن شئتُم – وْظِلٍّ مَمْدُودٍ ، وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ – ) رواه البخاري في صحيحه .

٣- إن الغرباء في هذه الأمة هم الذين استحقوا الثناء في هذا الحديث ؛ فهم الفرقة الناجية ، والطائفة المنصورة ، وهم أصحاب العقيدة السلفية الصحيحة ؛ الذين اعتقدوا ما اعتقده أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من التوحيد الذي لا يشوبه شركٌ ، والإيمان الذي لا يخالطه شكٌّ ، والسنة التي لا يشوبها بدعة محدثة ؛ وإن كان هؤلاء الغرباء أصحاب فقرٍ مدقع ، أو مرضٍ موجع ؛ أو مصائب مفزعة ؛ ما داموا على الحق سائرين ، وعن الباطل حاذرين ؛ نسأل الله من فضله العظيم .

٤- والمعنى الصحيح للغربة لا يتعارض مع الغربة بمعنى الموت ، وفراق الأهل والاخوان به بل الدنيا كلَّها بأسرها زائلة ؛ فالموت يجب الاستعداد له بالإيمان بالله ، والعمل الصالح ؛ ولذا يقول القائل :

لَيْسَ الغَريبُ غَريبَ الشَّامِ واليمنِ

إِنَّ الغَريبَ غَريبُ اللَّحدِ والكَفَنِ

 

إِنَّ الغَريِبَ لَهُ حَقٌّ لِغُرْبَتهِ

على الْمُقيمينَ في الأَوطانِ والسَّكَنِ

 

لا تَنْهَرَنَّ غَريباً حَالَ غُربتهِ

الدَّهْرُ يَنْهَرَهُ بالذُّلِ والمِحَنِ

 

سَفْرِي بَعيدٌ وَزادي لَنْ يُبَلِّغَني

وَقُوَتي ضَعُفَتْ والموتُ يَطلُبُني

 

وَلي بَقايا ذُنوبٍ لَسْتُ أَعْلَمُها

الله يَعْلَمُها في السِّرِ والعَلَنِ

 

ما أَحْلَمَ اللهَ عَني حَيْثُ أَمْهَلَني

وقَدْ تَمادَيْتُ في ذَنْبي ويَسْتُرُنِي

 

تَمُرُّ ساعاتُ أَيّامي بِلا نَدَمٍ

ولا بُكاءٍ وَلاخَوْفٍ ولا حزَنِ

 

٥- من صفات الغرباء دعوة الناس إلى الله وحده ؛ وإلى دينه العظيم ؛ الذي فيه سعادتهم دنياً وأخرى ؛ وأمرهم بالمعروف ، ونهيهم عن المنكر حتى يسيروا على الصراط المستقيم ؛ الذي أمر الله بالسير عليه في كتابه ، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ؛ والذي سار عليه السلف الصالح عقيدةً ، وشريعةً ؛ وأخلاقاً وسلوكاً ، وأنَّه لن يصلح آخر هذه الأمة إلاَّ بما صلح به أولها ، وصدق الله تعالى إذ يقول : ( وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) ( الأنعام : ١٥٣ ) .

٦- من صفات الغرباء التمسك بالسنة ؛ والذب عنها من تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين ؛ ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( نضَّرَ اللَّهُ امرأً سمِعَ مقالتي ، فبلَّغَها ، فرُبَّ حاملِ فِقهٍ ، غيرُ فَقيهٍ ، وربَّ حاملِ فِقهٍ إلى من هوَ أفقَهُ منهُ ) رواه ابن ماجه في سننه ؛ وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه برقم ٢٤٩٨ وقال صلى الله عليه وسلم : ( لا تَزالُ طائِفَةٌ مِن أُمَّتي ظاهِرِينَ علَى الحَقِّ ، لا يَضُرُّهُمْ مَن خَذَلَهُمْ حتَّى يَأْتِيَ أمْرُ اللهِ ؛ وهُمْ كَذلكَ ) رواه مسلم في صحيحه ؛ قال الإمام النووي ( ١٣ / ٦٦ ) : ” أمَّا هذه الطَّائفةُ فقال البُخاريُّ : هم أهلُ العِلمِ ، وقال أحمَدُ بنُ حَنبَل : إن لم يكونوا أهلَ الحديثِ فلا أدري من هم ” نسأل الله أن نكون منهم ، وأن يثبتنا وإياكم بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ، وألا يزيغ قلوبنا عن الحق بعد أن هدانا إليه ؛ وأن يحشرنا جميعاً في زمرة المتقين الأبرار ؛ الذين لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون . اللهم آمين .

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى