مقالات

حين تتبدل الأدوات.. هل تموت المهن أم تولد من جديد؟

أهداب المنديلي

أهداب المنديلي

بين سطور نقاشٍ قصير دار بيني وبين زميل عن “الآلة الكاتبة”، توقّفنا عند حقيقة بسيطة: كانت يومًا في قلب المكاتب الحديثة، وكان لها محترفون ومسمّيات ووظائف كاملة تدور حولها. ثم قال زميلي بثقة: «اندثرت». بدا الوصف دقيقًا، لكنّه أثار لديّ سؤالًا أوسع: هل تموت المهن حقًا… أم تتبدّل أشكالها وتولد من جديد؟

تشير تقديرات موثوقة إلى أن التحوّل لم يعد احتمالًا بل واقعًا متسارعًا: نحو ربع الوظائف عالميًا مرشّح للتغيّر خلال الأعوام الخمسة المقبلة، مع 69 مليون وظيفة ستنشأ و83 مليونًا ستُلغى بحسب تقرير مستقبل الوظائف 2023 للمنتدى الاقتصادي العالمي، فضلًا عن حاجة 44% من مهارات العاملين إلى تحديث قبل 2027. ليست موجة عابرة؛ إنها إعادة تركيب لسوق العمل بأدواته وأدواره.

لكن التاريخ المهني نادرًا ما يعرف الفراغ. الذي يحدث غالبًا أنّ الأداة تتبدّل فتنتقل القيمة: لم يعد “الطابع” مسمّى قائمًا بذاته، لكن مهارة الكتابة الدقيقة اندمجت داخل أدوار رقمية أوسع. وبالمنطق نفسه تحوّل التصوير الفوتوغرافي إلى سرد بصري وصناعة محتوى، وصار الأرشيف الورقي حوكمة بيانات وبنى معلوماتية، وتحوّلت مبيعات التجزئة من “كاشير” ثابت إلى أدوار متعددة القنوات وإشراف على الخدمة الذاتية. وفي الخلفية، تتجه تقديرات دولية إلى أن نحو 60% من الوظائف في الاقتصادات المتقدمة قد تتأثر بالذكاء الاصطناعي بدرجات متفاوتة؛ ما يرفع قيمة المرونة وإعادة التعلّم كعملة مهنية أساسية.

انعكاسات عملية على بيئات العمل

على مستوى المؤسسات

• توصيف قائم على المهارات لا على العناوين وحدها؛ مع إبراز المهارات القابلة للنقل بين الإدارات.

• تعلم مستمر قصير الدورات (Micro-learning) يواكب تغيّر الأدوات أسرع من البرامج الثقيلة سريعة التقادم.

• إعادة تصميم للوظائف عند تبدّل الأداة؛ بحيث يعكس العمل القيمة الجديدة بدل تكديس المهام، مع حراك داخلي مرن ومساحات تجربة منضبطة تقلّل كلفة الفشل المتأخر.

على مستوى الأفراد

• تعريف الهوية المهنية بالقدرات العليا (التفكير النقدي، التواصل العميق، حلّ المشكلات، التعلّم السريع) لا بالمسمّى فقط.

• ترسيخ عادات صغيرة منتظمة قراءة مركّزة، توثيق متقن، مراجعات قصيرة بعد المشاريع تبني هوية مهنية تصمد أمام التحوّلات.

خلاصة

ما نصفه بالاندثار غالبًا هجرةٌ للقيمة من وعاءٍ إلى آخر: وظيفة تضيق لتصبح مهارة، ومهارة تتّسع لتغدو تخصّصًا، وتخصّص يندمج داخل منظومة أكبر. المهنة ليست حبرًا على بطاقة تعريف، بل علاقة حيّة بين إنسانٍ وأداةٍ وزمن. وحين تُحرَّر من أسر المسمّى، لا تموت… بل تولد من جديد كلما تبدّلت الأدوات

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى