المصافحة


حسن بن محمد بن منصور مخزم الدغريري
بسم الله الرحمن الرحيم
معشر القراء : من الآداب الإسلامية التي جاء بها نبي الهدى صلوات الله وسلامه عليه أدب المصافحة بين أهل الاسلام قاطبةً ؛ والمصافحة هي إلصاق الكف بالكف ؛ والتي تذهب معها الشحناء والعدواة بين المتصافحين ؛ وتورث المودة والإخاء بينهما ؛ ويحط الله بها الخطايا حطَّاً ؛ فيا لله ما أحسنه من أدبٍ نبوي عظيم ؛ أعرض عنه بعض المسلمين ، وخاصةً عند التنازع والخلاف في أمورٍ دنيوية ليس لها قيمة كقيمة صفاء القلوب ؛ وتعانق الأرواح ، والوحدة الإيمانية بين أفراد الأمة المسلمة ؛ التي تدين لله رباً ، وبالاسلام ديناً ، وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم رسولاً ونبياً .
معشر القراء : قال النووي في كتاب الأذكار ( ١ / ٢٦٦ ) : ” اعلم أنها ” أي المصافحة ” سنّةٌ مجمعٌ عليها عند التلاقي ” .
معشر القراء : قد دلَّت السنة على مشروعية المصافحة ، وفضلها ؛ منها ما ورد عن أبي الخطاب قتادة رحمه الله ، قال : ” قُلتُ لأنَسٍ : أكَانَتِ المُصَافَحَةُ في أصْحَابِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؟ قالَ : نَعَمْ ” رواه البخاري في صحيحه ، وعن أنس رضي الله عنه قال : ( لمَّا جاء أهل اليمن ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قد جاءَكم أهلُ اليمنِ ؛ وهم أولُ من جاءَ بالمصافحةِ ) رواه أبو داود في سننه ، وصححه الألباني في صحيح أبي داود برقم٥٢١٣ وعن البراء رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما من مسلمين يلتقيان ؛ فيتصافحان إلا غُفِرَ لهما قبلَ أن يفترقا ) رواه أبو داود في سننه ؛ وصححه الألباني في صحيح أبي داود برقم ٥٢١٢ وعن أنس رضي الله عنه قال : ( قالَ رجلٌ : يا رسولَ اللَّهِ ، الرَّجلُ منَّا يَلقى أخاهُ أو صديقَهُ أينحَني لَهُ ؟ قالَ : لا . قالَ : فيَلتزمُهُ ويقبِّلُهُ ؟ قالَ : لا . قالَ : فيأخذُ بِيدِهِ ويصافحُهُ ؟ قالَ : نعَم ) رواه الترمذي في سننه ، وصححه الألباني في صحيح الترمذي برقم ٢٧٢٨ وعن أنسٍ رضي الله عنه أيضاً : ” كان أصحابُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ إذا التقُوا تصافَحُوا ، فإذا قدِموا من سفرٍ عانق بعضُهم بعضًا ) أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط ، وصححه الألباني في الصحيحة برقم ٢٦٤٧ .
معشر القراء : هناك أحكامٌ متعلقةٌ بالمصافحة ذكرها أهل العلم منها ما يلي : –
١– تشرع المصافحة بين الذكر والذكر ، والأنثى والأنثى ، وبين الذكر مع الأنثى من محارمه ؛ وأمَّا مصافحة الرجل للمرأة الأجنبية التي لايحل له مصافحتها ؛ ولاسيما الشابة ؛ فقد نهى عنها الشارع الحكيم صلوات الله وسلامه عليه ؛ كما عليه جمهور العلماء ، لحديث أميمة بنت رقيقة رضي الله عنها : ( إني لا أصافحُ النساءَ ! إنَّما قولي لمائةِ امرأةٍ ، كقولي لامرأةٍ واحدةٍ _ أو مثل قولي _ لامرأةٍ واحدةٍ ) رواه النسائي في سننه ؛ وصححه الألباني في صحيح النسائي برقم٤١٩٢ وأمَّا مصافحة المرأة العجوز ؛ ففيها خلافٌ بين أهل العلم ، والأحوط عدم المصافحة ؛ لحديث أمِّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت : ( مَا مَسَّتْ كَفُّ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ كَفَّ امْرَأَةٍ قَطُّ ، وَكانَ يقولُ لهنَّ إذَا أَخَذَ عليهنَّ ؛ قدْ بَايَعْتُكُنَّ كَلَامًا ) رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما ؛ وروى الطبراني في الكبير عن معقل بن يسار رضي الله عنه ، أنه قال : سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول : ( لأن يُطعَنَ في رأسِ رجلٍ بِمِخْيَطٍ من حديدٍ خيرٌ من أن يمَسَّ امرأةً لا تَحِلُّ له ) صححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم ٢٢٦ وصوَّب بعضهم أنه من قول معقل بن يسار ، ولا يصح مرفوعًا عن النبي صلى الله عليه وسلم .
٢– مصافحة الكفار ؛ فهي تابعةٌ للسلام عليهم ، فإذا كان لا يجوز ابتداؤهم بالسلام ؛ فلا يجوز ابتداؤهم بالمصافحة ، لكن إذا سلَّم الكافر ، ومدَّ يده للمصافحة ، فلا حرج بردِّ السلام عليه ، ومصافحته ؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا تَبْدَؤُوا اليَهُودَ ولا النَّصارَى بالسَّلامِ ، فإذا لَقِيتُمْ أحَدَهُمْ في طَرِيقٍ ؛ فاضْطَرُّوهُ إلى أضْيَقِه ) رواه مسلمٌ في صحيحه .
٣– المصافحة بكلتا اليدين أمرٌ مباح ؛ وهي لا سُنَّة ولا بدعة ؛ قال الإمام البخاري في صحيحه رحمه الله : ” باب الأخذ باليدين ، وصافح حماد بن زيد بن المبارك بيديه ، وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال : ( علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم التشهد ، وكفِّي بين كفيه) ” أي أنَّه صلى الله عليه وسلم آخذٌ بكفِّ ابن مسعود بكفيه كلتيهما . قال البخاري رحمه الله : ” قال شرَّاح الحديث : إنَّ الأخذ باليد هو مبالغة في المصافحة ، ونوع احتفاء بالمصافَح ” انتهى بتصرف .
٤– سُئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن المصافحة بعد العصر والفجر هل هي سنةٌ مستحبةٌ أم لا ؟ فأجاب رحمه الله في غذاء الألباب ( ١ / ٣٢٩ ) ” أمَّا المصافحة عقب الصلاة ” أي مباشرة ” فبدعة ، لم يفعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يستحبها أحدْ من العلماء ” .
٥– مصافحة الجالسين عند دخول المجلس : قال ابن عثيمين رحمه الله في الباب المفتوح ( ٤ / ٢٣٢ ) : ” لا أعلم فيها شيئًا من السنة ، ولهذا لا ينبغي أن تُفعل . بعض الناس الآن إذا دخل المجلس بدأ بالمصافحة من أول واحدٍ إلى آخر واحدٍ ، وهذا ليس بمشروعٍ فيما أعلم ، وإنما المصافحة عند التلاقي ، أمَّا الدخول إلى المجالس ، فإنه ليس من منهج الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولا أصحابه أن يفعلوا ذلك ، وإنما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يأتي ويجلس حيث ينتهي به المجلس ، ولم نسمع أيضًا أنه إذا جلس حيث ينتهي به المجلس أنهم يقومون ويصافحونه ، فالمصافحة على هذا الوجه ليست بمشروعة ” .
هذه بعض الأحكام ، والآداب الإسلامية المتعلقة بالمصافحة ، والتي حث عليها علماء الاسلام رحمهم الله بمقتضى ما ورد عن نبينا صلى الله عليه ، وصحبه الكرام ؛ لتقتدي بهم الأمة الاسلامية في ذلك ؛ والله نسأل أن يرزقنا وإياكم الإخلاص في القول والعمل ، وحسن الاتباع لنبينا صلى الله عليه وسلم ؛ وصحبه الكرام ؛ وأن يديم علينا وعليكم نعمة المحبة والإخاء فيما بيننا أهل الإسلام ؛ وأن يزيل عنَّا وإياكم مظاهر الخلاف والنزاع والعصيان ؛ وأن يدخلنا وإياكم رضوانه ، ودار كرامته على سررٍ متقابلين . اللهم آمين .