Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
مقالات

ظلال الذاكرة إلى نور الذات: قراءة وجودية في سؤال الهوية في قصة “ظلّ الذين مرّوا”

د. آمال بوحرب

د. آمال بوحرب

الهوية بين الفلسفة والأدب… سؤال لا يموت
ليست الهوية مجرد تعريف بيولوجي أو إثني أو بطاقة تُبرز في الإدارات، بل هي سؤال وجودي عميق يتكرّر كلّما حاول الإنسان أن ينظر في مرآة ذاته: “من أنا؟”
ناقش أفلاطون الهوية بوصفها جوهرًا ثابتًا يسكن خلف الظواهر، بينما رأى هيراقليطس أن لا ثبات في الكائن، فالإنسان لا يخطو النهر ذاته مرتين أما سارتر، فقد فجّر المعادلة بجملته الأشهر: “الوجود يسبق الماهية”، أي أن الإنسان ليس ما يُمنح له بل ما يصنعه بنفسه
في الأدب العربي، تجلّى سؤال الهوية بوصفه جرحًا سرديًا عميقًا نجيب محفوظ حوّل الهوية من بحث إلى رحلة لصنع الذات، وتوفيق الحكيم جعل منها محنة فكرية في صراع الشرق والغرب، أما محمود المسعدي فقالها بوضوح وجودي صاعق: “كل وجود لا يتجدّد يفنى”
من هذا الأفق، تنبثق قصة “ظلّ الذين مرّوا” للكاتبة د. أنسام المعروف، لا بوصفها سردًا بل كمرآةٍ للذات في عبورها من الظلال إلى الضوء، من الإرث إلى الاختيار، ومن الصدى إلى الصوت
أولًا: الاسم كمنشأ للكينونة – من الجدة إلى المدرسة
تبدأ البطلة من لحظة التسمية الأولى، حين تقول الجدة: “يا ابنة العائلة، يا ظلّ الأجداد والجدات” بهذا الإعلان العاطفي تبدأ الهوية كميراثٍ جمعي، كذاكرة متوارثة، لا كخيار حرّ
لكن هذا الامتداد لا يصمد أمام المؤسسة في المدرسة، تُختزل الفتاة إلى رقم، إلى طابع إداري، إلى ملف بلا ملامح
هنا يتجلّى ما يسميه هايدغر بـ”السقوط في العادية” — أن يفقد الكائن أصالته بانغماسه في اليومي والمفروض، ويصبح ما تريده السلطة منه، لا ما يريده هو.
الهوية هنا ليست سؤالًا، بل إجابة جاهزة، والمفارقة أن البطلة تُجبر على نسيان ما طُبع في قلبها، كي تصبح “مواطنة بلا ذاكرة”.
ثانيًا: ارتداء الأقنعة – تشظي الذات بين الأصوات
تقول البطلة: “صرت أجرّب الهويات كما تُجرّب الثياب في غرف التبديل” هذا السطر يُكثّف كل أزمة الإنسان الحديث الذي يعيش بين أن يكون ذاته أو أن يكون ما يُنتظر منه وبين المعلمة التي تزرع الخوف باسم الفضيلة، والمذيع الذي يفرض وطنًا بلا فهم، والفنان الذي يسوّق الجمال، والمؤثر الذي يختزل الحقيقة في الرأي العام — تتفكك الذات، وتتوزع على أقنعة المجتمع،هنا نستحضر سارتر من جديد في وصفه للإنسان المغترب عن قراراته، ودوركهايم حين تحدّث عن الأنومي — فقدان المعايير، حين يتحوّل الإنسان إلى انعكاس خارجي لا مرآة داخلية.
ثالثًا: المرآة المكسورة – ولادة الذات من الشك
في لحظة انكسار داخلي، تكتب البطلة لنفسها: “الهوية ليست ما تكتبيه على الورق… بل ما تبكين عليه دون أن تراكِ أمكِ” هذه الجملة تُخرج الهوية من القانون، وتُعيدها إلى التجربة
كما يقول نجيب محفوظ: “الإنسان يولد مرتين: مرة من جسد أمه، ومرة من روحه حين يكتشف ذاته”
فالوعي هنا ليس لحظة عقلية فقط، بل لحظة وجودية كاملة… تخلع فيها البطلة الأقنعة، وتتأمل المرآة بلا رتوش هذه ليست كتابة، بل انبعاث
رابعًا: مجتمع المرايا – هوية الجماعة بين التكرار والتقليد في مشاهد متفرقة من القصة، تظهر ملامح التشظي الجماعي شاب يهرب من لغته، مراهق يحاول الانتحار لأنه لا يُشبه نجمًا، وآخر يتقمّص شخصية تاريخية في محاولة للهروب من واقعه
هؤلاء جميعًا يعيشون ما يسميه هايدغر بـ”المنبوذ في العالم” — الكائن الذي لا يعود يعرف ذاته، فيستبدلها بصور الآخرين،
إنهم لا يعيشون في ذواتهم، بل في مرايا مزيفة تعكس صورًا لا تخصهم، وتفرض عليهم “ماهيات مصطنعة” تقتل الفطرة.
خامسًا: التحرر والاختيار – لحظة الخروج من الظل
في اللحظة الختامية، تهمس الأرض في أذن البطلة: “إن كل الذين مرّوا بك، تركوا ظلًّا، ووجعًا، وحرفًا لكن وحدكِ تُقرّرين ما تُبقي منه، وما تدفني”
هنا يحدث التحوّل الفلسفي العميق من الكائن المطبوع إلى الكائن الواعي، من الامتثال إلى الحريةفتختار البطلة أن تكتب اسمها “على جذع الوطن”، لا على أوراق المؤسسات أو أحكام المجتمع وتُجسّد بذلك المعنى السارتري: “الإنسان محكوم عليه أن يكون حرًا” أي أن لا مهرب من الاختيار، ولا مفر من مسؤولية الذات
معنى “ظلّ الذين مرّوا”: من أثر الآخرين إلى بصمة الذات
أن تكون “ظلّ الذين مرّوا” لا يعني الاستسلام لتكرارهم، بل امتلاك وعيٍ يسمح لك بإعادة تشكيل ما ورثتَه، وتجاوزه
إن الظلّ، في رمزيته، ليس لعنة، بل أثر هو البذرة التي تُمنح لك، لكن الثمرة التي تختارها بيدك
كما قال سارتر: “ما أنت عليه، هو ما تفعله بما فُعِل بك”
خاتمة: نحو هوية تُكتب بالنور لا بالظل
في قصة “ظلّ الذين مرّوا”, نحن لا نقرأ حكاية فتاة تبحث عن اسمها، بل نرافق كائنًا إنسانيًا وهو يُعيد بناء وجوده من رماد التكرار، ويصوغ ذاته من رمزية الرفض والقبول
الهوية هنا ليست وثيقة ميلاد، بل ولادة متكررة في كل لحظة وقرار ومواجهة
هي ليست قالبًا موروثًا، بل سؤالًا مفتوحًا، تُجاب عليه بالدمع مرة، وبالقلم مرة، وبالاختيار دائمًا
الظلّ الذي نتوارثه ليس قدرًا، بل بداية طريق
والنور الذي نبحث عنه ليس خارجنا، بل في لحظة الصدق مع الذات
إنها لحظة تقف فيها البطلة – مثل كل كائن يفكر – أمام مرآة الحياة لتقول: “لن أكون مجرد أثرٍ لمن مرّوا… بل صوتًا يمرّ”
وهكذا، تتقاطع الأنثروبولوجيا مع الأدب في أعمق تجلّياتها كلاهما يسائل الإنسان في سياقه، ويتتبّع تحوّله من كائن محكوم بالتقاليد إلى ذات حرّة تصوغ مصيرها
فالهُوية، من منظور أنثروبولوجي، ليست ثابتة ولا مفروضة، بل تتشكّل عبر الزمن، واللغة، والذاكرة، والصراع
وفي هذا المعبر بين الظلّ والنور، بين الذاكرة والاختيار، نكتشف أن الأدب ليس مرآةً للإنسان فقط، بل مختبر وجودي تذوب فيه حدود السرد والفكر، وتنبثق فيه الهوية كفعل، لا كإرث تراكمي .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى