Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
مقالات

ذاكرة اللقاء وروح القصيدة: أحمد الصائغ كما لا يُكتب

د.آمال بو حرب

د.آمال بو حرب

في زمنٍ كثرت فيه المهرجانات وتكاثرت الأسماء، لكن قلّت فيه الروح، وُلدت لحظة حضور مختلفة، اسمها: أحمد الصائغ. لم يكن مجرد شاعر يكتب القصيدة، ولا منظّم مهرجان يلتقط التفاصيل، بل كان بمثابة “النسيج الخفي” الذي يربط القلوب، ويخيط بين الأصوات خريطة من نور، يُقيم بها وطناً مؤقتاً في حضن الجمال. فمنذ أول خطواته، أدرك أحمد الصائغ أن الكلمة وحدها لا تكفي، إن لم تكن مشبعة بالروح، وأن الثقافة ليست استعراضًا للواجهات، بل فعل تواصل حقيقي ينبع من القلب.

حين نتحدث عن أحمد الصائغ، لا يمكن اختزاله في سيرة أو تعريف روتيني، فحديثنا معه هو عن قيمة تتجاوز المألوف، تعيد صياغة المعنى الحقيقي لأن تكون شاعرًا، ومضيفًا، وإنسانًا في آنٍ واحد. من خلال تجربته الطويلة واحتكاكه الدائم بالمبدعين من شتى أقطار الأرض، نال وعيًا رفيعًا بفن الإدارة الثقافية، دون أن يفقد تواضعه، بل جعله جسرًا متينًا يصل بين الاختلافات، ويقيم توازنًا نادرًا في كل لقاء جمعه بأهل الكلمة والفن.

في مهرجان نور تونس الثقافي الدولي الثاني، لم يكن اسمه متصدّرًا على اللافتات، لكنه كان في كل تفاصيل الحدث: في الكلمة التي جاءت في توقيتها المثالي، في الإنصات الذي لم يكن صمتًا عابرًا، بل كان اعترافًا صامتًا بقدسية الحضور الإنساني، وفي احتضان ثقافي جعل من كل مشارك، من كل ضيف، ومن كل نص، مرآة تعكس ذاته في مرآة الآخر. كانت رؤيته تجسيدًا حيًا لفكرة أن الثقافة ليست مجرد كلمات تُلقى، بل حياة تُعاش بصدق وتضامن.

أحمد الصائغ ليس مجرد مبدع يمتلك تجربة غنية، بل هو نموذج فريد لأخلاق الإبداع. رجل لم تغره الألقاب، ولم تسحره الأضواء، بل جعل من كل مهمة يقوم بها خطوة نحو تكريس معنى أعمق للثقافة. هو يكتب من الظل، يمارس الكرم من دون إعلان، ينسحب بهدوء من بؤرة الضوء، تاركًا وراءه أثرًا لا يُمحى وصدًى لا يحتاج إلى مكبر صوت.

هو باختصار، ذلك الإنسان الذي يعرف أن المبدع الحقيقي لا يحتاج إلى وساطة ليصل، ولا ضوءًا مسلّطًا ليُرى. فالصوت الأصيل يعرف طريقه مهما اشتدت ضوضاء الأصوات، والموهبة الصادقة لا تنتظر إذنًا كي تزهر. أحمد الصائغ صنع من حضوره سندًا خفيًا للمبدعين، لا يرهبهم بسلطة، ولا يضيّق عليهم بإدارة، بل يهيّئ لهم فضاءً نقيًا، حيث يكونون كما هم، بعيدًا عن المجاملات، والوجوه المزيفة، والموازنات الكاذبة.

في كل ما فعل، لم يكن أحمد الصائغ “واسطة” بين الناس والإبداع، بل كان الجسر النظيف الذي لا يُرى، لكنه هو من أوصل الجميع بأمان إلى الضفة الأخرى من المعنى، حيث تتفتح الكلمات، وتنتصر الروح، ويُكتب الشعر كما يجب أن يُكتب: حرًا، صادقًا، وإنسانيًا.

في زمن غابت فيه الأصوات الصادقة وسط صخب المهرجانات، يبقى أحمد الصائغ مثالاً حيًا على أن الأدب والثقافة روح قبل أن تكون احتفالًا، وأن الإنسان الحقيقي هو من يُعيد للقاء مع القصيدة معنى الذاكرة، والصدق، والإنسانية التي لا تُكتب إلا بدموع القلب وصمت الروح

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى