شجرة الهمبا العتيقة


صالح بن سعيد بن صالح الحمداني
عزيزي القارئ إليك أول ما كتبته في القصة وأسأل الله التوفيق ولعلها تجد ما ارنوا إليه.
في قريةٍ صغيرةٍ جميلةٍ تحضنها أشجار النخيل من جهاتها الثلاث الشمال والجنوب والغرب وتفتح صدرها جهة الشرق على بحر عمان، كان المشهد كل صباح ومساء لوحةً لا يشبهها شيء الأمواج تتراقص برقة على الشاطئ تداعب الرمال بحنان كأنها تحكي لها أسرار البحر الدفينة.
وفي الليالي التي يكتمل فيها القمر خصوصًا في ليلة الخامس عشر كان البدر ينشر ضياءه الفضي فوق سطح المياه الزرقاء، فتغدو الأمواج مرآةً صافية تعكس نور القمر ويمتزج زرقة البحر بلمعان الفضة في منظر يأسر القلوب.
وسط هذه الجنة الطبيعية انتشرت بيوت القرية متلاصقةً مع بعضها كأنها تتعانق بألفة، بين البيوت سكنت السكك الضيقة ممراتٍ صغيرة تسير بينها خطوات الناس الذين اعتادوا زيارة بعضهم البعض بكل مودة، فلا غريب في هذه القرية ولا بيت بلا ضحكة أو تحية عابرة.
في هذه القرية الجميلة عاش راشد وكان شابًا رقيق القلب ينعم بحياة هادئة مليئة بالحب تملؤها البساطة ودفء العلاقات كل صباح كان يوقظه صوت الموج، وكل مساء كان يغفو على همس الرياح بين سعف النخيل أحب راشد قريته حبًا عميقًا، وأحب الناس وأحب البحر الذي علمه أن الهدوء قوة وأن في البساطة يكمن الجمال.
كان راشد يمتلك قلبًا كبيرًا وأحلامًا أكبر من قريته الصغيرة كان طيب القلب لا يردُّ لأحد طلبًا لكنه كان يثق بالناس بسهولة حتى صار محاطًا بأشخاص لا يزيدونه إلا تعبًا وهمًّا.
كان أصدقاؤه يثقلون عليه بالشكوى ويسحبونه إلى مجالس النميمة والضياع، حتى بدأ يشعر أن طموحه يخبو وأن نور قلبه يبهت يومًا بعد يوم.
ذات مساء جلس راشد تحت شجرة الهمبا العتيقة يتأمل الغروب والهموم تغمره اقترب منه رجل مسنٌّ من أهل القرية يُدعى العم صالح وجلس بجانبه دون أن يتكلم.
بعد لحظات من الصمت قال العم صالح بصوت هادئ: “يا بني الحياة قصيرة… فلا تُثقلها برفقة من يطفئ نورك.”
نظر راشد إليه بدهشة فأكمل الرجل مبتسمًا: “عاشر من يزيد حياتك حياة، ابحث عمّن يشعل فيك الشغف من يجعلك تبتسم دون سبب ويذكرك بأنك قادر على الطيران حتى وإن كسرتك العواصف.”
تأمل راشد كلامه مليًّا شعر أن الكلمات لمست شيئًا عميقًا في داخله في تلك الليلة اتخذ قرارًا شجاعًا سيعيد ترتيب حياته.
بدأ راشد يبتعد بهدوء عن أولئك الذين يسحبونه إلى القاع لم يكن الأمر سهلًا فقد شعر بالوحدة في البداية لكنه كان واثقًا أن الفراغ الذي تركوه سيملؤه نور آخر.
ومع مرور الأيام بدأ يقترب من أشخاص مختلفين شاب يعمل بجد في متجره الصغير، وآخر يسعى لتعليم الأطفال في القرية مجانًا، وفتاة تؤمن بأن الكلمة الطيبة تغير العالم أصبح راشد يستمد من صحبتهم طاقة إيجابية وحبًا للحياة لم يعرفه من قبل.
تفتحت أحلامه من جديد وعاد قلبه يشع بالنور، وصار راشد بدوره شخصًا يزيد حياة الآخرين حياة، وفي كل مرة يجلس تحت شجرة الهمبا العتيقة كان يبتسم وهو يتذكر نصيحة العم صالح: “اختر من يضيف إلى قلبك نورًا، لا من يطفئه.”
بعد أن غيّر راشد دائرة معارفه واختار أن يعاشر من يزيد حياته حياة بدأت معالم التغيير تظهر سريعًا في حياته فقد عاد الشغف إلى قلبه صار يستيقظ كل صباح وهو متحمس ليومه يضع أهدافًا صغيرة يحققها بثقة؟ بدأ مشروعًا بسيطًا حيث افتتح ورشة لصناعة الأثاث الخشبي مستفيدًا من مهارته التي كانت مدفونة وسط الإحباطات القديمة.
أصبح راشد محاطًا بدعم حقيقي كلما تعثر وجد يدًا تمتد له وصوتًا يقول له: “أنت تستطيع”، أصدقاؤه الجدد لم يكونوا مثاليين لكنهم كانوا صادقين يدفعونه للأمام بدل أن يسحبوه للخلف.
انتعشت روحه! صار يحضر حلقات القراءة مع المثقفين الصغار في القرية ويشارك في الأعمال التطوعية وأصبح وجهًا مألوفًا في كل مبادرة خيرية، شعر لأول مرة أن له أثرًا وأن وجوده يضيف جمالًا للعالم ومع مرور الوقت أصبح راشد قدوة للشباب الآخرين الذين لاحظوا التحول العظيم في شخصيته.
صاروا يسألونه: “كيف أصبحت هكذا يا راشد؟” فيبتسم بهدوء، ويقول: “اختروا من يضيء أرواحكم، ولا تتركوا قلوبكم لمن يطفئها.”
وفي أحد الأيام بينما كان يجلس مع العم صالح تحت شجرة الهمبا قال له الشيخ العجوز بفخر: “لقد أصبحت أنت الآن يا راشد من يزيد حياة الآخرين حياة.”
ضحك راشد والابتسامة على وجهه وقال: “لولا كلمتك الحكيمة يا عم صالح لبقيت تائهاً بين من يسرقون النور من عيني”.
بينما كان راشد يشارك في مبادرة لزراعة الأشجار في قريته التقى بفتاة اسمها راية، كانت راية شغوفة بالحياة تضحك من القلب وتنثر طاقة إيجابية أينما ذهبت، كانت تحب الطبيعة وتؤمن أن كل عمل خير صغير يترك أثرًا كبيرًا في العالم، منذ اللحظة الأولى شعر راشد أن قلبه وجد نغمة خاصة لا تشبه أي شيء سمعه من قبل، كانت راية مختلفة عن كل من عرفهم سابقًا لم تكن تثقل عليه ولم تكن تبحث عن شيء سوى أن تكون نورًا يضيء دربه كما كان هو يحلم دائمًا.
توطدت العلاقة بينهما يومًا بعد يوم كانت تدفعه ليكبر وتشجعه على تحقيق أحلامه، وتشاركه حتى أدق التفاصيل وكأنها تؤمن به أكثر مما كان يؤمن بنفسه، تقدم لخطبتها وهو يرى الامل والسعادة في زواجه بها ووافق الاهل والخبر أسعد راشد وأخذته الاحلام والأماني بعيدا حيث ميناء السعادة ينتظره.
تزوج راشد وراية بعدها بعام وأقاما معًا بيتًا صغيرًا مليئًا بالحب والطمأنينة تحول بيتهم إلى قبلة للخير حيث يجتمع فيه الناس وتدور فيه المشاريع الصغيرة والمبادرات الكبيرة، لقد أدرك راشد بكل جوارحه أن الحياة لا تُقاس بعدد الأيام بل بعدد الأرواح التي تضيئها وكانت لراية بلا شك النور الأجمل في حياته.
وفي إحدى أمسيات الصيف الجميلة تحت شجرة الهمبا العتيقة جلس الزوجان راشد وراية يتأملان الغروب.
قال لها راشد مبتسمًا: “كنت أبحث طوال حياتي عن من يزيد حياتي حياة، ووجدتك أنت.”
ابتسمت راية بخجل ومدّت يدها تمسك بيده وكأنها تقول دون كلمات: “وأنا وجدت وطني فيك”.