حين يصبح القناع وجهًا: الإنسان كأخطر كائن


د.آمال بو حرب
في هذا الكون، حيث تتقاطع الكائنات في دروب الحياة، ليس الأسد ولا الأفعى، ولا الذئب هو الأخطر… بل الإنسان. نعم، الإنسان، حين يخلع إنسانيته ويضع قناع الطمع أو الحسد أو السلطة، يتحوّل إلى أعتى الكائنات خطرًا، لأنه الكائن الوحيد القادر على الإيذاء الواعي، الإقصاء الممنهج، والغدر المقنّع بالابتسامات.
الحيوان، في أبسط صور غرائزه، لا يهاجم إلا لسب بيولوجي: الجوع، الخوف، أو لحماية صغاره. فهو لا يحمل في قلبه ضغينة، ولا يحسد أنثى القطيع الأخرى، ولا يحاول اقتلاع الآخر من المشهد لمجرّد أنه لامس الضوء.
أما الإنسان، فتلك قصة أخرى تمامًا.
فهو يؤذيك أحيانًا لا لشيء، سوى أنك موجود. أو لأنك حققت شيئًا كان يتمنّاه لنفسه. أو لأنك تذكّره، بصمت، بعجزه هو.
يقول الفيلسوف فريدريش نيتشه في واحدة من أكثر مقولاته تقويضًا لصورة الإنسان:
“الإنسان هو الحيوان الوحيد الذي يختبر لذّة في تعذيب غيره، وغالبًا ما يفعل ذلك من أجل المتعة.”
هكذا تنكشف هشاشة الأخلاق حين يُطلق الإنسان العنان لغرائزه النفسية العمياء: الغيرة، الأنانية، السعي الحثيث إلى أن يكون هو وحده في القمّة، حتى لو اضطر لهدم السلالم التي صعد عليها الجميع.
وقد عبّر جان جاك روسو عن هذا الصراع الداخلي حين قال:
“الإنسان ولد طيبًا، لكنّ المجتمع أفسده.”
لكننا اليوم نواجه خطرًا يتجاوز المجتمع، خطرًا ينبع من الداخل… من الإنسان الذي لا يكتفي بسقوطه، بل يهوى أن يراك تسقط معه، لا لكي يشعر بالتفوق، بل لكي لا يشعر بالخذلان من نفسه.
هذا الإنسان الذي يسكن حولنا، قد يبتسم لك صباحًا، ويضع خطةً لتشويهك مساءً.
قد يجلس في الصف الأول من حفلتك، بينما يكتب في رأسه نهايتك.
قد يمسح دمعتك، لا رأفة، بل خوفًا من أن تراك الجماهير وتعلو أكثر.
إنه الكائن الذي لا يرضى أن تكون معه، بل يريد أن يكون مكانك. وحين يعجز عن الوصول، يبدأ في التلويح بالمطرقة، لا لبناء ذاته، بل لهدم ما بنيت.
ميكيافيلي، في كتابه الشهير الأمير، كتب بواقعية مروعة:
“الناس ينسون موت آبائهم أسرع مما ينسون فقدان ممتلكاتهم.”
وهو بذلك يُشير إلى فظاعة أنانية الإنسان، حين تصبح المصلحة فوق العاطفة، وفوق الصداقة، بل وفوق الدم أحيانًا. أخطر ما في هذا الكائن أنه يتقن فنّ القناع.
يُجيد التلاعب بالصورة، والتحدث عن المحبة وهو يزرع الكراهية، والحديث عن العدالة بينما يمارس الإقصاء.
هو كائنٌ من طراز نادر:
لا يملك أنيابًا، لكن كلماته تُمزّق.
لا يملك مخالب، لكن إشاراته قد تدفنك حيًا.
وفي زمنٍ لم تعد الأخلاق فيه ضمانًا، ولا القرب عهدًا، صار لزامًا أن نتذكّر أن الوحوش لا تسكن الغابات فقط، بل المكاتب، والصفوف، والصفحات الاجتماعية، وربما الأرواح الأقرب إلينا.
فأخطر ما يهددنا ليس وحشًا يزأر، بل إنسانًا يبتسم.
هو لا يريدك أن تُطفئ نوره، بل أن لا تضيء أنت.
ولا يريد أن يفوز… بل أن لا تفوز أنت.
وما أكثرهم حين يقال لهم: “النجاح مشترك”،
فيجيبون: “لكن القمة لا تتّسع لاثنين.”
وما أخطر هذا النفاق حين يلامس باب الأدب والفكر،
تسأل عن فرصة نشر، فلا تتلقى إلا تعتيمًا،
تسأل عن مهرجان ثقافي، فتُحجب عنك الأجوبة الصحيحة،
تفتح قلبك للمعنى، فيواجهونك بالهراء والمراء،
كأنك لست كاتبًا، بل خصمًا يتعيّن عزله.
نعم، الإنسان حين يخون المعنى،
يصير أخطر من كل وحشٍ عرفته الأرض،
لأنه حينها… يخلع وجهه.
وكما قال أبو حيان التوحيدي:
“الكلام على الكلام صعب، ومن أجل ذلك وُضع السكوت.”
لكننا لا نسكت، لأن الصمت في حضرة الزيف خيانة.
ولا نهادن، لأن المثقف الحقيقي لا يخاف من كشف الوجه المسروق.
فالكلام – حين يكون صادقًا – يصير فعلاً.
والكتابة – حين تفضح هذا الكائن الذي نزع إنسانيته – تتحوّل إلى مقاومة.
في زمنٍ صار فيه القناع قاعدة، والكلمة تهمة، والصعود جريمة… يبقى الحبر النظيف فعل نجاة.
ويبقى المثقف، رغم الألم، شاهدًا على زمنٍ
أخطر ما فيه ليس الذئب في الغابة،
بل الإنسان في هيئة صديق.