غياب المتكرر في العلاقات: رقصة الوجود والعدم في مرآة الفلسفة


د. آمال بوحرب
الغياب كعلامة وجودية تتجاوز السلوك
في زمنٍ تتقاطع فيه التكنولوجيات السريعة مع هشاشة الالتزامات البشرية، لم يعد الغياب فعلًا طارئًا، بل تحوّل إلى ما يشبه “اللغة البديلة” التي تُفصح بالصمت أكثر مما تُعبّر بالكلمات. لم يعد الغياب مجرّد تصرف فردي، بل أحد أعراض الانزياح العميق الذي طرأ على مفهوم العلاقة في العصر الحديث. الفيلسوف زيجمونت باومان يصف هذه التحولات في “الحب السائل”، حيث أصبحت العلاقات هشّة، قابلة للاستبدال، غير قائمة على الاستمرارية أو التضامن. التفسير الأنثروبولوجي المتداخل هنا يرى أن الغياب المتكرر هو نتاج بنية ثقافية جديدة تشجّع الفرد على التفكير في ذاته ككيان مستقل ومنفصل، لا كجزء من شبكة علاقات ملزمة ومتواصلة.
1. صراع الحرية والمسؤولية: عندما تتحول العلاقة إلى ساحة وجودية
يرى جان بول سارتر أن الإنسان حرّ في اختياراته لكنه مسؤول عنها. الغائب المتكرر، في هذا السياق، يُمارس حريته عبر الهروب، لكنه يتنصل من مسؤولية حضوره في حياة الآخر. إنه يمارس شكلاً من “الوجود السالب”، أي إثبات الذات عبر النفي. ألبير كامو، في نظرته العبثية، يُسقِط المعنى عن الوجود، ما يجعل العلاقة عبئًا لا ضرورة. الغياب إذًا هو نوع من التمرّد الوجودي، تمرد على المعنى ذاته. أنثروبولوجيًا، يُعَد هذا الغياب تمظهرًا لفكرة الذات المتضخمة في المجتمعات النيوليبرالية، حيث يتحوّل الإنسان إلى مشروع فردي.
2. الحرب النفسية الداخلية: بين الأنا المنقسمة والذات الممزقة
يقدم سيغموند فرويد الغياب كنتاج لصراع داخلي بين مبدأ اللذة ومبدأ الواقع. أما كارل يونغ، فيرى في الغياب علامة على عدم تكامل “الأنيما” و”الأنيموس” في النفس. من الزاوية الأنثروبولوجية، يعكس هذا الانقسام النفسي انقسامًا ثقافيًا أعمق: ففي المجتمعات الحداثية، يُربّى الفرد على التفوق العقلي والنفعية والبرودة العاطفية، بينما يتم قمع المشاعر تحت عباءة “النضج”.
3. اغتراب الإنسان الحديث: من العلاقة الوجودية إلى التشييء
يرى مارتن بوبر أن العلاقة الحقيقية تقوم على نموذج “أنا-أنت”، حيث الآخر يُرى بوصفه كيانًا وجوديًا لا وسيلة. إيريك فروم يُشير إلى غياب عناصر الحب الناضج: الاحترام، المعرفة، المسؤولية، والاهتمام. أنثروبولوجيًا، هذا التحول يُبرز كيف غيّرت الحداثة معنى الآخر في المخيال الثقافي.
4. العلاقات في قبضة الرأسمالية المتأخرة
في تحليل جان بودريار، يخضع الحب لقوانين السوق. بيير بورديو يوضح أن كل علاقة اجتماعية تستبطن شكلًا من أشكال “الاستثمار”. التفسير الأنثروبولوجي المتداخل هنا يكشف كيف أثّرت البُنى الاقتصادية في أنماط التفاعل البشري.
5. التكنولوجيا والفردانية: الجدار الصامت بين البشر
تحذّر أودري لورد من أن الصمت الرقمي لم يعد بريئًا، بل أصبح أداة للسيطرة والعزلة. أما هيغل، فيُذكّر بأن الاعتراف المتبادل هو أساس الوعي بالذات. أنثروبولوجيًا، التكنولوجيا أوجدت نوعًا جديدًا من الغياب: غياب الحضور رغم الاتصال.
الخاتمة: نحو أنطولوجيا الحضور
الغياب المتكرر ليس ظاهرة نفسية فقط، بل علامة على انهيار أنطولوجي في العلاقات الإنسانية. وكما تحذّر حنة أرندت، فإن أكبر تهديد للإنسان الحديث ليس العنف، بل العزلة التي تحرمه من إمكانيات الحياة المشتركة.
نحن بحاجة إلى:
1. إعادة تعريف الحرية: الحرية الحقيقية ليست الهروب من العلاقة، بل الصمود داخلها.
2. أخلاقيات الاهتمام (كارول جيليجان): العودة إلى أخلاق تقوم على الاعتراف، الحضور، والرعاية.
3. تفكيك الثقافة الاستهلاكية العاطفية: ورفض تحويل العلاقات إلى خدمات آنية أو تطبيقات تُغلق عند الملل.
“الحب الحقيقي ليس غيابًا يعود، بل حضورٌ دائمٌ حتى في لحظات الصمت” — عبارة تلخص رؤية هايدغر عن “الوجود مع الآخر” كجوهر لا غنى عنه للكينونة