Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
مقالات

احتضار المعنى بين سلطة الكاتب وتأويل القارئ

د/ آمال بوحرب

د/ آمال بوحرب

 الفكرة ككائن هش في فضاء مزدوج السلطة

حين تُولد الفكرة داخل النص، فإنها لا تُولد في فراغ، بل في صلب جدل حاد بين ذات تكتب وذات تقرأ. في هذا التقاطع، تنشأ الفكرة ككائن يتنفس من رئة المؤلف، لكنه لا يلبث أن يُسحب إلى فضاء القارئ، حيث يُعاد تشكيله وتأويله، بل ربما يُدفن حيًّا تحت تراكمات المعنى، وبهذا المعنى نتساءل: هل تموت الفكرة في لحظة قراءتها، أم أنها تبدأ حياتها الحقيقية بعد أن تفلت من قبضة الكاتب؟

. النص بين نية المؤلف ومقصلة التلقي

إن كل نصٍّ يحمل بذور نية مؤلفه، مهما ادعى الحياد أو الموضوعية. غير أن هذا النص، ما إن يُطلق إلى العالم، حتى يفقد مركزية المعنى الأصلي لصالح تعددية التأويل. يرى هانس روبرت ياوس في نظرية “جمالية التلقي” أن القارئ لا يستقبل النص كليًّا، بل من خلال “أفق توقعاته” المبني على خلفياته الجمالية والتاريخية. وبذلك، تصبح نية الكاتب مجرد احتمال ضمن احتمالات شتى، وقد تُدفن الفكرة الأصلية تحت ركام التأويلات. وهذا يُذكرنا بما قاله الروائي التشيكي ميلان كونديرا:

“الكتب ليست لتشرح، بل لتُساءَل. الكاتب يقترح، لكن القارئ يحاكم.”

. تأويل الفكرة: خلق جديد أم خيانة للنص؟

في لحظة القراءة، يتدخل القارئ كفاعل منتج للمعنى، لكنه قد يتحول أحيانًا إلى قاضٍ يصدر أحكامًا على النص، أو حتى إلى جلادٍ يقطع أوصاله بتأويلات قسرية. وهنا تظهر إشكالية: هل كل قراءة هي شرعية بالضرورة؟ أم أن هناك حدودًا يضعها النص نفسه لتأويله؟ جوديث بتلر ترى أن المعنى ليس ثابتًا، بل هو “نتيجة التكرار داخل بنية سياقية”، أي أن الفكرة تُعاد إنتاجها بحسب السياق المتغير. وهذا يجعلنا نتساءل: هل موت الفكرة ناتج عن عنف التأويل، أم عن هشاشة النص الأصلي؟

. الفكرة ككائن تفاعلي: ما بعد البنيوية ومصير المعنى

ما بعد البنيوية، كما عبّر عنها جاك دريدا، لا تعترف بمركز للمعنى داخل النص. المعنى يُؤجل باستمرار، وهو دائم الانزلاق بفعل اللغة نفسها. يقول دريدا في مفهومي “الاختلاف (الاختلاف (بتعبير دريدا))”:

“المعنى لا يوجد في مكان، بل يتحرك بين الفجوات”.

وبالتالي، فالفكرة ليست كينونة ثابتة، بل حركة مستمرة. غير أن هذه الحركة قد تصبح، بشكلٍ مفارق، شكلاً من الاحتضار: الفكرة لا تستقر، وبالتالي لا تُقبض، فتتبدد في طيف قراءات لا نهائية.

. بين قلق الكتابة وعبء القراءة: الفكرة في مأزق

ترى سوزان سونتاغ أن النقد المفرط قد “يقتل الفن”، وقد نُسحب هذا على القراءة ذات الطابع السلطوي. هناك نوع من القراء يحوّل كل فكرة إلى أداة إثبات لأيديولوجيا أو موقف مُسبق، فيفقد النص براءته الأصلية. في المقابل، يعاني الكاتب من قلق التلقي، فيكتب وهو مدرك سلفًا أن المعنى الذي يقصده لن يصل كما أراد. وهنا تكمن المفارقة: الفكرة لا تُحتضر فقط بسبب سوء الفهم، بل أحيانًا بسبب كثافة الفهم.

. الفكرة بين الأثر والسياق: نحو نظرية وجودية للمعنى

مارتن هايدغر في كتابه “الكينونة والزمان” ربط بين الفهم والكينونة، فالفهم ليس عملية معرفية فقط، بل هو نمط وجود. وعليه، فإن كل فكرة تُقرأ تُعاد صياغتها داخل الوجود الخاص بالقارئ. هذه النظرة تفتح الباب أمام “تعدد حقيقي” للفكرة، لكنها تُعرّضها أيضًا للتفكك والانحلال. فحين تتكاثر القراءات، قد تفقد الفكرة تماسكها، وتتحول إلى مجرد “أثر لغوي” بلا أصل. وهنا نلمس موتًا ميتافيزيقيًا للفكرة، شبيهًا بموت “الأنا” في صوفية ابن عربي:

“الفكرة لا هي لي، ولا لغيري، إنما هي ظلٌّ لما لا يُقال”.

خاتمة

 من احتضار الفكرة إلى احتمالات انبعاثها

هل الفكرة تموت حين تُكتب؟ أم حين تُقرأ؟ أم حين تُستخدم خارج سياقها؟ ربما علينا أن نعيد التفكير في مصير الفكرة من منطق الحياة لا من منطق النهاية. الفكرة ليست وحدة مستقلة، بل تجربة عبور، بين ذهنين، بين زمنين، بين نيتين. هي لا تموت، لكنها تتغير، وربما هذا التحول هو شكل آخر من أشكال الحياة. في زمن السرعة والسطحية، لعلنا نحتاج إلى “أخلاقيات التأمل” قبل أن نكتب أو نقرأ، كي لا يتحول كل نص إلى قبرٍ جديد لفكرة ما.

المراجع

1. هانس روبرت ياوس، «جمالية التلقي»، ترجمة: سعيد الغانمي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 2004.

2. ميلان كونديرا، «الستار: تأملات في الرواية»، ترجمة: أمين صالح، منشورات الجمل، 2008.

3. جوديث بتلر، «الذات تصف نفسها»، ترجمة: معن أبو الحسن، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2016.

4. جاك دريدا، «الكتابة والاختلاف»، ترجمة: كمال بومنير، دار الطليعة، بيروت، 2005.

5. سوزان سونتاغ، «ضد التأويل»، ترجمة: فواز طرابلسي، دار الساقي، بيروت، 2006.

6. مارتن هايدغر، «الوجود والزمان»، ترجمة: وتقديم: فؤاد كامل، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 1995.

7. محيي الدين ابن عربي، «الفتوحات المكية»، دار الكتب العلمية، بيروت، طبعة محققة.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى