ذكريات الولد الشقي..ما بعد العيد


فايل المطاعنى _عمان
هناك لحظات لا تحتفظ بها الكاميرات، بل تحفرها الذاكرة في القلب. لحظات تمرّ سريعة، لكنها تبقى حيّة مهما طال الزمن. ذكرياتنا نحن، جيل الطيبين، لا تُنسى… لأنها كانت صافية، بلا فلاتر. واليوم، سأفتح لكم صندوق طفولتي الشقية، وأحكي عن “ما بعد العيد”… تلك الأيام التي كانت مزيجًا من الفرح والدفء والعفوية.
أيام العيد كانت شيئًا من الجمال النقي، حيث كانت الفرحة تملأ جدران البيت، وتنبض بها القلوب قبل الزينة. الأسرة كلها مجتمعة، الضحكات تتقاطع في أرجاء المكان، ورائحة الكعك تمتزج بعبير البخور والعطور الشعبية.
كنا ندخل بيوت الجيران بكل براءة، لا نحتاج إلى دعوة ولا مواعيد. كانت البيوت مفتوحة والقلوب أوسع. تلك الأيام كانت بسيطة، نعم… لكن كانت تحمل في بساطتها سعادة لا تُوصف، وتواضعًا يجعلنا نحس أننا جميعًا واحد، لا غني ولا فقير. كلنا نلبس ملابس العيد الجديدة، أو لنقل “الجديدة بالمقارنة” ، فلم تكن الموضة تفرقنا، بل كانت تجمعنا الطيبة.
لم يكن لدينا هواتف ذكية، ولا شبكات تواصل، ولا لعبة ببجي التي تجمعك بناس من آخر الكرة الأرضية… كنا نلعب مع من نعرفهم، في الأزقة، تحت أشعة الشمس، ونرجع بملابسنا مغبرة وقلوبنا سعيدة.
كانت أمي تطمئن إذا قلت لها: “بروح ألعب مع عبدالعزيز”، وكان عبدالعزيز وقتها شريكي في كل الحركات الشقية. واليوم؟ عبدالعزيز صار فنانًا مشهورًا، يصدح صوته في المسارح، بينما أنا… لازلت أصدح بالذكريات.
الإسكريم؟ آه يا صديقي! كان يعني لنا الكثير. لا ننسى شراب الفيمتو المثلج، ذلك الذي كان يبيعه العم داوود بعربته الصغيرة… كأنّنا نشرب الفرح في كل رشفة.
وكنا نعلم أن العيد قد اقترب حين نسمع أم كلثوم تشدو: “يا ليلة العيد آنستينا…”، حينها كانت قلوبنا ترقص قبل أقدامنا. ولا أنسى صوت صفاء أبو السعود وهي تغني: “أهلاً بالعيد…”، كنا نرددها بحماس طفولي، والفرحة تلمع في عيوننا.
بل حتى الأغاني العُمانية كانت لها نكهة خاصة، كنا نحفظها عن ظهر قلب، نغنيها ونحن نركض بين البيوت، نوزع الابتسامات كأننا سفراء للفرح.
العيد في ذلك الزمن لم يكن مجرد “عيدية” أو صور إنستغرام… بل كان أسلوب حياة، لوحة زمنية تؤرخ لجيل لن يتكرر. جيل الطيبين، كما يسمّونه اليوم. نعم، نحن جيل الطيبين… والجميلين، والمساكين أحيانًا، لكننا كنا أغنياء بالفرح.
واليوم، حين نفتح أعيننا على عالمٍ يتغير بسرعة، نرجع للحظة إلى الوراء… نتنفس عبق الطفولة، ونبتسم. لأننا نعرف أن ما عشناه لم يكن مجرّد ذكريات… بل كان حياة. جميلة، صافية، ولا تُنسى.