مقالات

سرقت اللوحة وتركت المسمار.. تأملات أعمق في معنى الفقد”

محمد بن منيع أبوزيد 

محمد بن منيع أبوزيد 

في أحد المجالس الثقافية الخاصة بالمدينة، سمعت ذلك الكبير جداً في السن والأكبر في العقل يقول: “سرقت اللوحة وتركت المسمار”. وفي واقع الأمر، تأثرت جداً بقوله، ولا أعلم هل الحديث له أم سمعها من أحدهم، ولكن أياً كان القائل، المهم جمال الكلمات والوصف الدقيق والعميق للرحيل. يا ترى، كم سارق في هذا العالم سرق اللوحة وترك المسمار؟ تلك المسامير التي غُرزت في القلوب وتسببت بجراح عميقة، آلامها لا تُنسى مع مرور الوقت والزمان.

الجرح الخفي الذي لا يندمل

تأملت طويلاً في معنى هذه الكلمات البسيطة التي تحمل ثقلاً هائلاً يفوق حجمها بمراحل. كيف للمسمار الصغير، ذلك الشيء الضئيل المتواضع، أن يتحول إلى شاهد صامت على فراغ يتسع باتساع الكون؟ هناك في جدران أرواحنا المتعبة مسامير لا تُحصى، تشير بصمت مؤلم إلى لوحات غابت في غياهب النسيان، إلى أحبة رحلوا دون وداع، إلى أحلام تبخرت كقطرات الندى تحت شمس الحقيقة القاسية. المسمار ليس مجرد قطعة معدنية صغيرة تُدق في الجدار، بل هو ندبة روح عميقة لا تندمل مهما طال الزمن، وذكرى ألم لا تُمحى مهما حاولنا طمسها بطبقات من التجاهل والنسيان.

صمت المسامير وصراخها الداخلي

المسامير صامتة في ظاهرها، لكنها تصرخ بعنف في أعماق أرواحنا المتصدعة. تلك الثقوب العميقة التي تركها الراحلون في جدران قلوبنا المتهالكة تظل تنزف بصمت، ينساب منها ألم خفي لا يراه إلا من ذاق مرارته. نمر بجانبها كل يوم في طرقات حياتنا اليومية، نلمسها أحياناً بأطراف أصابعنا المرتعشة من هول ما تثيره من ذكريات، ونتذكر بوضوح ما كان معلقاً عليها ذات يوم من أيام السعادة الغابرة. ربما كانت صورة لحبيب غادر دون رجعة، أو حلماً كنا نراه كل صباح فيملأ نفوسنا بالأمل، أو رجاءً كان يضيء عتمة أيامنا الطويلة ويمنحنا سبباً للاستمرار.

السارقون في الظلام: أشباح تسرق الفرح وتترك الألم

يتسللون إلى حياتنا في غفلة من وعينا، يتحركون بخفة بين ثنايا أيامنا، يأخذون ما نحب بمهارة اللصوص المحترفين ويتركون لنا الفراغ الموحش والذكريات المؤلمة. قد يكون السارق زمناً مر دون رحمة، يسرق الشباب والصحة والأحبة، أو قدراً لم نختره ولم نستطع مقاومته، أو حتى شخصاً أحببناه بكل صدق وأعطيناه مفاتيح قلوبنا فخاننا في لحظة غدر. يسرقون منا الضحكات العفوية، الأمنيات البريئة، الأحلام المشرقة، ويتركون لنا المسامير الصدئة التي تؤلمنا كلما لمسناها أو حتى نظرنا إليها. كم من سارق ماهر مر في حياتنا وأخذ منا قطعة ثمينة من القلب دون أن يعيدها، وكم من لص محترف سلب منا الفرح وترك لنا الدموع؟

أثر الغياب: حضور من نوع آخر

الغياب ليس مجرد فراغ يمكن ملؤه بسهولة، بل هو حضور من نوع آخر، حضور ثقيل يجثم على الصدر ويكتم الأنفاس. حضور الألم الذي يستيقظ فجأة في منتصف الليل، حضور الذكرى التي تباغتنا في لحظات الضعف، حضور المسمار الذي يذكرنا دوماً بما فقدناه. نتعلم مع مرور الوقت، ودروس الحياة القاسية، أن نتعايش مع هذا الحضور المؤلم، نتعلم أن نمر بجانب المسامير دون أن نجرح أصابعنا من جديد، لكننا لا ننسى أبداً أنها هناك، تنتظر لحظة ضعف لتذكرنا بجراحنا القديمة. ربما نعلق عليها لوحات جديدة في محاولة يائسة للنسيان، لكن ذلك لا يمحو الحقيقة المرة أن لوحة أخرى كانت هناك، وأن شخصاً آخر كان يملأ حياتنا، وأن حلماً آخر كان يسكن قلوبنا.

المسامير كشهود على تاريخنا الشخصي

كل مسمار في جدران حياتنا يحكي قصة، يروي حكاية، يحمل ذكرى. إنها ليست مجرد ثقوب عشوائية، بل هي خريطة دقيقة لرحلتنا في هذه الحياة. لو تأملنا في تلك المسامير المنتشرة على جدران أيامنا، لوجدنا أنها تشكل معاً لوحة فنية معقدة، تظهر فيها كل التعرجات والمنحنيات التي مررنا بها. بعض المسامير قديمة متآكلة، تعود لطفولتنا البعيدة، وبعضها جديد لامع، يشير إلى جراح حديثة لم تندمل بعد. وبين هذا وذاك، تتراكم المسامير، شاهدة على أننا عشنا، أحببنا، خسرنا، وواصلنا المسير رغم كل شيء.

همسات المسامير في ليالي الوحدة

في تلك الساعات الصامتة من الليل، حين يغفو العالم وتستيقظ الذكريات، تبدأ المسامير في الهمس. صوتها خافت كنسمة صيف رقيقة، لكنه يصل إلى أعماق الروح. تحكي عن أيام مضت، عن ضحكات تلاشت، عن دموع جفت، عن قلوب توقفت. في تلك اللحظات، نشعر بوحدة قاتلة، كأننا الوحيدون الذين يسمعون تلك الهمسات، الوحيدون الذين يحملون تلك المسامير في جدران قلوبهم.

لكن الحقيقة المؤلمة والجميلة معاً، هي أننا لسنا وحدنا. في كل بيت، في كل قلب، في كل روح، هناك مسامير تهمس في الليل. هناك أشخاص يستمعون مثلنا إلى صدى الماضي، يتأملون في الفراغات التي خلفتها اللوحات المسروقة، يلمسون بأصابع مرتعشة تلك الندوب التي لا تزول. نحن جميعاً، بطريقة أو بأخرى، حاملو المسامير، حراس الذكريات، شهود على رحيل من أحببنا وما أحببنا.

المسامير كفرصة للتعلم والنمو

قد يبدو غريباً أن نتحدث عن المسامير كفرصة، لكن الحقيقة أن تلك الآثار المؤلمة التي تركها الراحلون في حياتنا يمكن أن تكون بوابات للنمو والتطور. كل مسمار يمكن أن يكون درساً، كل ثقب يمكن أن يكون تذكيراً بأننا قادرون على التحمل والاستمرار. ربما كان علينا أن نمر بتجربة فقدان اللوحة لنتعلم كيف نقدر ما لدينا، وربما كان علينا أن نشعر بألم المسمار لندرك أهمية التشبث بما نحب. في عالم متسارع لا يتوقف، قد تكون المسامير هي الشيء الوحيد الذي يجبرنا على التوقف، التأمل، والتفكير في معنى وجودنا وعلاقاتنا.

دروس المسامير: معلمون قساة لا يرحمون

ما أقساها من دروس تلك التي تعلمنا إياها المسامير الباقية في جدران حياتنا! تعلمنا بطريقة مؤلمة أن كل شيء في هذه الحياة قابل للرحيل والزوال، وأن الألم قد يكون الشيء الوحيد الباقي بعد أن تختفي كل مظاهر السعادة والفرح. تعلمنا أن نقدر ما لدينا قبل أن يصبح مجرد مسمار على جدار الذكريات الباهتة. تعلمنا أن الحياة تستمر بقسوة وعناد حتى مع وجود آلاف المسامير في جدرانها المتهالكة، وأن علينا أن نواصل المسير رغم الجراح والآلام. تعلمنا أن نتقبل فكرة أن الخسارة جزء لا يتجزأ من تجربتنا الإنسانية، وأن المسامير ستظل شاهدة على رحلتنا الطويلة في دروب الحياة المتعرجة.

المسامير في الأدب والفن: تجليات الألم الإنساني

لطالما كان الفقد والألم موضوعاً محورياً في الأدب والفن عبر العصور. من مآسي شكسبير إلى قصائد المتنبي، من لوحات فان جوخ الحزينة إلى موسيقى بيتهوفن المفعمة بالألم، نجد أن المبدعين قد استلهموا من تجاربهم المؤلمة أعظم أعمالهم. كأن المسمار الذي يُترك في الجدار بعد سرقة اللوحة يصبح بذرة لإبداع جديد، وكأن الفراغ الذي يخلفه الراحلون يصبح مساحة لولادة فن جديد. ربما كان الإبداع هو الطريقة المثلى للتعامل مع آلام المسامير، تحويلها من مجرد ثقوب مؤلمة إلى نوافذ تطل على عوالم جديدة من الجمال والمعنى.

نجوم تضيء عتمة الليل

في نهاية المطاف، بعد سنوات من التأمل والتفكر في معنى الفقد والألم، ربما نكتشف حقيقة مدهشة: أن المسامير ليست مجرد شواهد على ما فقدناه وما خسرناه في رحلة العمر، بل هي أيضاً نجوم صغيرة تضيء عتمة لياليِنا. هي علامات مضيئة على أننا عشنا بكل ما تحمله الكلمة من معنى، أحببنا بصدق وعمق، حلمنا بجرأة وشغف.

في قلب كل إنسان منا مسامير كثيرة، بعضها يؤلم حتى اليوم، وبعضها تحول مع الوقت إلى ذكرى هادئة. لكنها جميعاً، بطريقة ما، جزء من قصتنا، جزء من هويتنا. هي تلك النقاط المضيئة في سماء أرواحنا، تذكرنا في لحظات الظلام أننا قادرون على الاستمرار، على الحب من جديد، على الحلم رغم كل شيء.

وفي ليالي الوحدة والألم، حين تبدو السماء مظلمة والطريق طويلاً، ارفع رأسك وانظر إلى تلك المسامير المنتشرة في جدران قلبك. ستجدها تتلألأ كالنجوم، تهمس لك: “أنت لست وحدك، نحن هنا معك، شهود على قوتك، على قدرتك على المضي قدماً رغم كل ما مررت به”.

سرقت اللوحة وتركت المسمار… عبارة موجزة تختصر في كلمات قليلة قصة الإنسانية بأكملها، قصة الفقد والألم والذكريات التي لا تموت مهما طال الزمن، والمسامير التي تبقى شاهدة على ما كان وما لم يعد، على ما أحببنا وما فقدنا، على ما حلمنا به وما تبخر في سماء الواقع القاسي. لكنها أيضاً قصة الأمل والاستمرار، قصة القلوب التي تنزف ولا تتوقف عن النبض، قصة الأرواح التي تتألم ولا تكف عن الطيران.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى