مذكرات الولد الشقي..أصوات من السماء


فايل المطاعني
في زمنٍ كانت فيه الأرواح أنقى، والقلوب أكثر خشوعًا، كنا نُربّي إيماننا على صوت السماء، ونُهذّب وجداننا على ترديد التلاوات العطرة في صباحات المدارس. لم تكن الحياة سهلة، لكنها كانت أجمل، لأن القلوب كانت ممتلئة بالضوء، والعقول مشغولة بما يُرضي الله لا بما يُرضي الشهرة.
أتذكر أول مرة سمعت فيها صوت الشيخ عبدالباسط عبدالصمد، كان عبر إذاعة المدرسة، حين انطلقت تلك التلاوة الفريدة في صباحٍ بارد، شعرت أن شيئًا ما في داخلي استيقظ. لم يكن صوتًا عاديًا، بل كان وكأن السماء تتحدث إليّ، بصوت رخيم، خاشع، يدخل إلى أعمق نقطة في الروح.
من يومها، وقعت في حبّ الأصوات القادمة من السماء…
الشيخ محمد صديق المنشاوي، بكاؤه الخفي في التلاوة، الشيخ الطبلاوي، بروحه الشجية التي كانت تفتح لنا أبواب التأمل، والشيخ محمود خليل الحصري، بتجويده المتقن الذي علّمني أن القرآن ليس فقط كلامًا يُقرأ، بل جمال يُعاش.
ثم جاء الشيخ أحمد رفعت، بصوته النادر، وكأنه يرتل من الجنة مباشرة.لكن التلاوة لم تكن وحدها غذاء الروح…كنت أجلس أمام شاشة التلفاز في رمضان، قبل الإفطار، لأنتظر الشيخ علي الطنطاوي. كنت أتأمل هيبته، ووقاره، وعقله الذي يفيض بالحكمة، وصوته الذي يُربّت على القلب كما تفعل يد الأم. لم أكن أفهم كل شيء، لكنني كنت أُحبّه.
ثم هناك الشيخ محمد عمر الدعواق، بطلّته الوقورة وعقاله الأبيض، كان يذكّرنا دائمًا أن الدين ليس صراخًا، بل هدوءًا، وليس تشدّدًا، بل رحمة.
هؤلاء هم نجومي… كانوا “القمم” في زمنٍ لم نكن نعرف فيه ما معنى “نمبر ون” أو “نمبر تو”. كنا نعرف معنى القدوة، ومعنى الإحسان، ومعنى أن يكون الإنسان عبدًا صالحًا، لا نجمًا يتراقص على الشاشات.
الخاتمة:
كبرنا، وتغيّرت الدنيا، وتكاثرت الأصوات…لكن تظل تلك الأصوات النورانية محفورة في الذاكرة، كأنها نداءات من السماء لا تُنسى.
وحين يضيق صدري اليوم، لا ألجأ إلى الموسيقى ولا إلى الضجيج… بل أرجع إلى تلك الأصوات، أضع السماعات، وأغلق عيني، وأترك قلبي يسافر…
إلى زمنٍ كانت فيه أرواحنا أنقى… وقلوبنا أقرب.