الولد الشقي في رحاب الكعبة


فايل المطاعنى
في حياتي مغامرات كثيرة، منها ما ضحكت عليه، ومنها ما بكيت، ومنها ما نسيت… لكن هناك لحظة واحدة علقت في قلبي مثل نجمة لا تنطفئ، لحظة لا تُروى إلا بهمسة reverence وبعينين دامعتين…
لحظة وقوفي لأول مرة أمام الكعبة المشرفة.
كنت صغيرًا، بملامح مشاغب لا يهدأ، أركض خلف الحمام وأختبئ خلف أعمدة المسجد… لكن قلبي؟ كان خاشعًا، مذهولًا، خائفًا ومندهشًا كأنه يزور السماء لأول مرة
وصلنا إلى مكة بعد رحلة طويلة في سيارة تنوء بأغراض الحج والذكريات. كنت جالسًا في المقعد الخلفي أعدّ أعمدة الإنارة وأراقب اللوحات التي تقول: “مكة المكرمة – أهلاً وسهلاً“، كأنها ترحب بي وحدي!
حين رأيت القبة الذهبية من بعيد، ظننت أني في حلم. لكن الحلم لم يبدأ بعد.
دخلنا المسجد الحرام من باب الملك عبدالعزيز، وكانت الرائحة أول من استقبلني… خليط من ماء زمزم، وعرق الإيمان، وبخور الزائرين. نظرت يمينًا، ثم يسارًا، ثم إلى الأعلى، وفجأة…
هناك! الكعبة!
توقفت أنفاسي..سقطت الكلمات من فمي.
لم أعد “الولد الشقي”… بل طفلٌ ضائع بين رهبة وقداسة، بين سواد الكعبة ونور عينيها.
مشيت خلف أبي وأنا أتمسك بطرف ثوبه، وأشعر بأن كل ذرة من جسدي تتوضأ بالدهشة. اقتربت، لمستُ الحجر الأسود بأنامل ترتجف. دعوت… دعوت كثيرًا، وأنا لا أعرف كيف تُقال الأدعية، لكن الله فهمني. الله دائمًا يفهم الأطفال.
ثم طُفنا… سبع مرات وأنا أحاول أن أعدّها في رأسي، لكن الزحام، وصوت المؤذن، وبكاء أمي، جعلني أكرر الرابعة مرتين… ربما طفت ثمانيًا، أو تسعًا، لا أعلم، لكنها كانت أجمل “لفة” في حياتي.
وعند مقام إبراهيم، جلست أنظر إلى قدميه المحفورتين في الحجر، وتخيلته يمشي نحوي، يبتسم لي، ويربت على رأسي… خرجت من الحرم وأنا لست كما دخلت.
خرجتُ وأنا أحمل في داخلي شيئًا لا يُرى، ولا يُلمس، لكنه يضيء قلبي كلما أغمضت عيني.
منذ ذلك اليوم، عرفت أن بعض الرحلات لا تنتهي عندما تعود… بل تبدأ.
فهل تعود الكعبة لزيارتي، أم أزورها أنا مرة أخرى؟
لا يهم…المهم أنني زرتها مرّة… وكانت كافية لتغيّر كل شيء.