الحزن


نجاح لافي الشمري الحدود الشمالية رفحاء
الحزن: شعور إنساني لا بد منه
الحزن هو أحد أعمق المشاعر التي يختبرها الإنسان، وقد يكون ناتجًا عن فقدان شخص عزيز، خيبة أمل، أو حتى الشعور بالوحدة. وعلى الرغم من أن الحزن مؤلم، إلا أنه شعور طبيعي وضروري للنمو النفسي والتوازن العاطفي.
من المهم ألا نكبت الحزن، بل أن نعيشه بصدق، ونتحدث عنه مع من نثق بهم. فالتعبير عن الحزن هو بداية الشفاء. كما أن الإيمان، والدعاء، والعودة إلى الله تمنح النفس طمأنينةً وتخفف من وطأة الألم.
حين يسكن الحزن القلب ليس طيفًا عابرًا، بل سكنٌ مؤقت في القلب، أحيانًا يطول. لا يطرق الباب، بل يدخل بصمت، يخيّم على الملامح، ويتسلل إلى تفاصيل الحياة الصغيرة. ترى الأشياء كما هي، لكنها بلا طعم. تضحك أحيانًا، لكن بداخلك نهر جاف لا يُروى.
الحزن لا يحتاج إلى إعلان، هو يُرى في النظرات، يُسمع في الصمت، يُقرأ بين السطور. هو تلك الغصة التي تمنعك من الكلام، وتلك الدموع التي تسكن العين ولا تسقط. هو السكون في الليل، حين ينام الجميع، وتبقى أنت وحدك تصارع الأسئلة والألم.
الحزن ليس ضعفًا، بل علامة على إنسانيتنا. هو أحد المشاعر الأساسية التي تصبغ التجربة البشرية، ويمر بها كل إنسان، مهما اختلفت خلفياته أو ظروفه. إنه شعور عميق ومعقّد، يعبر عن خسارة، فراغ، ألم داخلي، أو حتى شوق لما لم يحدث. لكن رغم ثقله، قد يكون الحزن مَعبرًا نحو النضج والتصالح مع الذات.
وفي علم النفس، يُعتبر الحزن أحد مراحل الحداد الخمس حسب نموذج إليزابيث كوبلر روس: (الإنكار، الغضب، المساومة، الاكتئاب، التقبّل). ويؤكد المختصون أن تجاهل الحزن أو كبحه لا يؤدي إلى تجاوزه، بل على العكس، قد يؤدي إلى اضطرابات نفسية مثل الاكتئاب أو القلق المزمن. لذلك، من المهم منح أنفسنا الإذن بالشعور بالحزن والتعبير عنه، سواء بالبكاء، الكتابة، أو الحديث مع الآخرين.
وفي الأديان، يُنظر للحزن على أنه ابتلاء واختبار للقلوب. في الإسلام، على سبيل المثال، نجد في القرآن الكريم مواساة عظيمة للمحزونين، مثل قوله تعالى:
“ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين”
وقوله تعالى في تسلية قلب النبي محمد صلى الله عليه وسلم:
“ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون، فسبّح بحمد ربك وكن من الساجدين“.
الحزن في هذا السياق ليس نهاية، بل محطة للرجوع إلى الله، وتفريغ الهمّ بالدعاء والرضا بالقدر. الروح حين تتألم، تزداد قربًا من الله، وتتعلم أن لا تعلق قلبها بما يفنى، بل بمن يبقى.
الحزن يجعلنا أكثر إنصافًا في النظر إلى الحياة. عندما نحزن، ندرك قيمة اللحظات البسيطة التي كنا نغفل عنها. نصبح أكثر قدرة على التعاطف مع آلام الآخرين، ونكف عن إصدار الأحكام القاسية. فكم من إنسان صار أحنّ وأرحم بعد أن تذوق طعم الحزن!
كثير من أعظم القصائد والمقطوعات الموسيقية والروايات وُلدت من رحم الحزن. فالأدب والفن يعكسان هذا الشعور، ويحوّلانه إلى رسالة جمالية وإنسانية خالدة.
كيف نتعامل مع الحزن؟
الاعتراف بالمشاعر: لا تخف من أن تُظهر حزنك، فكل إنسان يمر بلحظات ضعف.
التحدث إلى شخص موثوق: سواء كان صديقًا، أحد أفراد العائلة، أو معالجًا نفسيًا.
البحث عن منافذ للتعبير: الكتابة، الرسم، الاستماع للموسيقى، أو حتى المشي الطويل يساعد في تهدئة النفس.
العودة إلى الروح: الصلاة، التأمل، وقراءة القرآن أو النصوص الروحية.
الصبر: فكما أن الفصول تتغير، كذلك الأحزان لا تبقى أبدًا.
الحزن لا يقتلنا، بل يعيد تشكيلنا. يجعلنا أعمق، أنقى، وأكثر وعيًا بما يهم حقًا. قد نكرهه، لكنه كثيرًا ما يمنحنا بصيرة لم نكن نملكها. لا بأس أن نحزن، ما دمنا نعلم أن بعد كل ضيق فرج، وبعد كل دمعة نور.
إنه فصل خريفي في حياة الروح؛ تتساقط فيه أوراق الزيف، لتظهر جذور الصدق.
والحزن في الشعر ليس مجرد بكاء، بل احتجاج صامت، وصرخة مكسورة ضد الخذلان، ضد الموت، ضد الفقد، ضد الحياة حين لا تُنصف، نزار قباني
والقلب الحزين يرسل رسائل لا تُقرأ، بل تُشعر. يقول: “أنا تعبت”، “أنا ما عدت كما كنت”. لا يبحث عن شفقة، بل عن فهم. عن عين ترى ما لا يُقال، ويد تُمسك به في الظلام. الحزن، مهما طال، لا يدوم. في داخله بذرة نور، لكنه لا يظهر إلا بعد أن نتعب جدًا، بعد أن نبكي بما يكفي، ونصمت بما يكفي، ثم نستفيق. يعود النور خافتًا أولًا، ثم يشتد. يعود الضحك غريبًا، ثم مألوفًا. تعود الروح للحياة، لكن بعد أن تكون قد تغيّرت. الحزن لا يمر دون أن يترك أثرًا. نحن بعده لسنا كما كنا قبله.
الحزن لا يُحتَقر، بل يُفهم. هو ليس عدوًا، بل رسالة. يخبرنا أن هناك شيئًا في الداخل يستحق العناية، يستحق التضميد. فدع الحزن يأخذ وقته، لكن لا تدعه يسكنك للأبد. وافق عليه، احترمه، ثم قل له: لقد تعلّمت ما يكفي، وحان وقت الرحيل.
وفي النهاية، يظل الحزن تجربة إنسانية راقية، تعلمنا التعاطف، وتقرّبنا من جوهر وجودنا.